"لم أكتبها... بل هي من ألّفتني، سكنتني كفجوة، وتخيّرت جيبا لتولد منه"
عندما نفضت الغبار عن معطفي ولبسته، وجدتها
في جيبي الداخلي.
لم أجد ورقة كما تظن أنت الٱن، بل عثرت على
امرأة.
لا أدري كيف أشرح الأمر، ولا كيف اتسع
الجيب لها، لكنها كانت هناك، تجلس بثبات لا يناسب حجمها، تطالعني بعينين خاليتين
من الدهشة، وكأن وجودها في جيبي أمر معتاد.
"تأخرتَ
كثيرا"، همست.
لم أستطع أن أنطق. المعطف كان لي، الجيب
كان لي، لكن المرأة لم تكن كذلك.
مدّت يدها بلطف، ووضعت شيئا في راحة يدي،
ثم عادت إلى مكانها. ساعة جيب صغيرة، عقاربها تدور إلى الخلف.
قالت: "حين تنتهي هذه الدورة، ستتذكر
كل شيء. أو تنسى الباقي."
عقارب الساعة ما زالت تدور إلى الخلف. وهي
ما زالت تنظر إليّ، بوجه لا يحمل لوما صريحا، فقط ما يكفي من الهدوء ليؤلم.
قالت: "هل
تذكرني الآن؟"
لم أجب. لكن، شيء ما في صوتها أيقظ رعشة بين كتفي.
أطرقتُ برأسي. "كتبتكِ...
ربما، في ليلة ماطرة... كتبت لأنسى فقط..."
ضحكت. ضحكة صفراء قصيرة.
"كتبتني،
نعم. من أول سطر وحتى منتصف المشهد الرابع. جعلتني أحب، وأرتجف، وأنتظر شيئا لم
تكتبه."
رفعت إصبعها إلى جبهتي. وغمغمت: "ثم
تركتني معلّقة... لا موت، لا حياة، لا خلاص."
ابتلعتُ ريقي. كل كلمة منها سحبتها من مسودات قديمة، من
سطور محذوفة، من نسخ غير محفوظة، كانت شخصية مشوهة، خطأ اقترفته.
"كنت
أنوي العودة"، همستُ، وكأنها عذر يصلح الآن.
"لكنّك
لم تفعل. والوقت هنا لا يمضي، يعود فقط. كل يوم أستفيق في منتصف الحدث ذاته. أنتظر
قبلتي. أرجو موتي. أطلب شيئا... أي شيء."
نظرتُ إلى ساعتها. العقارب تتحرك ببطء،
تمنحني مهلة.
"إن
كنتَ ستكتب، فاكمل. وإن كنتَ ستنسى... فانسني تماما. لا تُبقِني نصف فكرة، ربع
امرأة، داخلها كل وجع الدنيا. أدخلني قلبك، أو اخرجني من هذا الجيب الضيق القريب
إلى قلبك، البعيد عنك."
عدت إلى المسودة، كتبت نهايتها، وحينها
خرجت من الجيب، لم تختفِ... بل توسّعت. انتفخت أصابعها بالحبر، وانشق جلدها فانكشف
تحته فراغ أبيض كصفحة عذراء.
سقطت من يدي، لكنها لم تسقط إلى الأسفل، بل سقطت إلى
الداخل، امتصها الجيب مرة أخرى رغم أني لم أعد أحمله. شعرتُ بشيء يزحف تحت قميصي، فمزقته...
حملت الورقة لأمزقها فوجدت نهاية أخرى، غير
تلك التي كتبتها، "الجيب لم يكن في المعطف أبدا... بل كان فجوة في صدرك. و المرأة لم تكن شخصية عادية
في قصتك، بل كانت القصة نفسها التي سكنتك، وترى الٱن العالم من عينيك."
أغلقتُ المسودة بنهايتها الجديدة، لا
لأُنهيها، بل لأمنحها وهْمَ الختام. فالقصص لا تموت بالتمام، إنها تتخفّى في
التفاصيل، وتعيد تشكيل نفسها حين يغفل الكاتب.
هناك دائما جيب آخر في المعطف، لأن الذاكرة
تخيط جيوبها السرّية حين نظن أننا نسينا، وكما أن في صدر المبدع فجوات، فثمة دوما
قصة تنتظر أن تسكن إحداها.
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا