قارب ميدوز… من الداخل | نزار لعرج

الكاتب: نزار لعرجتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

 

مجلة فن السرد

كان الليل أزرقا، عميقا كما لم يكن من قبل، والسماء متلبدة بطبقات متواترة من الصمت المقيت. من سيزيل عنه تعب السعي النهاري الحثيث؟ فكّر قليلا ثم قال: المقهى. لا شيء في الخارج يعِده بشيء جديد، ولكنه خرج من منزله هاربا من ذكرى لا يتذكرها جيدا، ذكرى قديمة، اختفت معالمها، لكن الشعور المصاحب لها مازال ينخر جسده ببطء شديد، أراد أن يضع وخزات على جسد الغياب، فطلب فنجان قهوة. أخذ العلبة من جيب معطفه، ودخن تلك الليلة كما لم يدخن من قبل، أراد أن ينفث روحه دفعة واحدة مع دخانه المثقل بأعباء الذاكرة.  مرت ساعة أو أكثر، ولا شيء تغير، وكأن الزمن انكسر من حوله، كل شيء يشير إلى أن الليل لا يريد أن ينتهي، وسواده لن يتبدد. مرت لحظات من السكون، حتى اقتربت النادلة منه بهدوء. كان زيها غريبا، يشبه زي بحارة في الأزمنة البعيدة. سترة زرقاء ضيقة تعانق جسدها، محاطة بخطوط سوداء تشبه حبالا متهالكة. سروالها الأسود كان ضيقا على خصرها، يتماهى بانسيابية تامة مع جسدها، وحذاؤها يضفي على خطواتها الهدوء الذي لا يشعر به صديقنا. كانت النادلة تسير بين الزبائن ببطء، ثم تعود إلى نفس المكان، وكأنها تمشي على البحر. طلب منها سيجارة وتلمّس يدها حين الاستلام، وكأنه يتأكد من حقيقة وجودها.  نظر إلى اللوحة المعلقة على الجدار المقابل، "قارب ميدوز" الذي كان يظهر حادثة غرق سفينة، بجثث عائمة في البحر الهائج، والألم يطغى على كل تفصيل في الصورة. استغرق في النظر، حتى شعر فجأة أن جسده قد تحول إلى جزء من تلك الصورة؛ كأنه أحد الغارقين، ظل عالقًا في زوبعة لا يعرف لها مخرجًا. كان البحر في عينيه، وكانت الفرقاطة تتلاشى في الظلام. تحدث مجددا بصوت مرتفع، وعينين مثبتتان على اللوحة: "من أتى بهذه اللوحة اللعينة إلى المقهى؟" لكن النادلة لم تلتفت إليه، ولم تجبه، كأنه غير مرئي لها. كان يظن أن صوته ضاع في المدى ولم يصل إليها، لكن في الواقع، كان هو الذي ضاع فيه، هو من غاب.  أخذ نفسا عميقا، ونظر إلى اللوحة مرة أخرى، ولكنه لم ير غير المحيط المفتوح. البحر بلا حدود، بلا ملامح، اختفى الزمن هناك في تلك الزرقة العميقة. الصوت الذي تردده الأمواج أصبح يتسلل إلى أعماقه، لكنه لا يستطيع الهروب منه. ثم سمعت أذنه همسات تتداخل مع صوت البحر، همسات كانت تقول: "اللعنة، سنصطدم، سنصطدم بالخليج." تلتها أصوات بكاء وعويل بدأت تخترق سكون المقهى، شعر أن جسده مكبل، لقد أصبح جزءا من تلك اللوحة، غرق في ذلك البحر الموحش، لم يتحرك، ظل ثابتا في مكانه، عالقا في تلك اللحظة الملعونة، ثم اضمحل صوته، كما اختفى البحر من عينيه.

مجلة فن السرد | محاكاة




التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث