النَّقص المُزدوجُ | ماجدة الغروادي

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

 

مجلة فن السرد


مجلة فن السرد
المبدعة ماجدة الغروادي


كانت، كما لو أنها تحفر الصخر بإبرة، أو تزرع زهرًا في صحراء قاحلة، أو تتسلق جبلًا وعرًا في أعماق المحيط. سقطت جفونها تمامًا. بحثت كثيرًا، وكتبت قليلًا، ثم مسحت ما كتبت، وعادت إلى الرقن من جديد. فشلت كثيرًا كي ترضى قليلًا، كانت تجري وراء الرضى وتطارده. شعرت بروح هيباتيا تسكنها، كانت هيباتيا، الشيطان الذي يُملي عليها ما ينبغي أن تكتبه وتفهمه. ألم يكن للشعراء شياطينُ تُملِي عليهم الكَلِمَ وعذبَ الشعر والكلام؟

كان هذا الأسبوع فارقًا. أعياها التعب، لكن نقطة الضوء الوحيدة أنها مستمتعة بما تفعل. لعملها – الذي لا يعني شيئًا لنا – قدرة غريبة على إسعادها وإبهاجها من حين إلى حين. أعظم ما أنجزته، أنها أتمت أصعب جزء في بحثها. تتذكر جيدًا أنها حفظته، هذا ما بقي في ذاكرتها. حين فتحت الملف بعد يوم، لم تجد شيئًا. لا شيء. بحثت في كل الملفات والمجلدات المهملة والمنسية، في كل الأمكنة والمساحات المتاحة وغير المتاحة بالحاسوب... لا شيء.

لم تصرخ، ولم تبكِ. سكنت روحها، وغمرها الابتئاس. استبدت بها مشاعر لم تفهمها، حالة غريبة، عجيبة. ضاع جزء منها، وليس أي جزء... بل الأهم.

 أسبوع كامل ويزيد، وهي مستيقظة، تعاكس الأفكار علّها تجود عليها بقطرة من محيطاتها، بحبّة من جنانها الشاسعة، تستجدي حبّة فهم، تطلبها، وترغب فيها. وهل كمثل الراغب شيء؟ ولحسن حظها، وجدت نسخة محفوظة. لم تكن معدّلة، لكنها كانت شيئًا. إعادة نصف العمل خير من إعادة العمل كله.

شعرت باطمئنان، وغمرها الفرح. تأكّدت من حفظ الملف مرة ثانية، وأعادت حفظ بحث تخرّجها مرات ومرات، ثم غفت. استغرقت في نوم عميق، يحضنها الليل بذراعيه ويلفّها. أيقظها صراخ مدوٍّ، أرعبها، انتفضت من هوله، وانتفض الليل معها. صوت أنثوي حادّ انتشلها من سكونها المفترض. أرهفت السمع باحثة عن صدى هذا الصوت الذي لا يريد أن يخبو، إنما يتعالى ويتوسّل... دفعت عنها البطانية، خرجت إلى الشرفة، تنقل ناظرها بين الشجيرات، والمسجد، وعربات الخضر والفواكه المغطّاة بالأقمشة، ورجل يحرسها لأصحابها.

 في الغالب، هذا الحارس يشغل موقعًا برزخيًا. لا يجلس قرب عتبة المسجد، ولا تحت شجرة وارفة الدفء، ولا في الأماكن المخصصة للجلوس في الحديقة القريبة من العربات. يقضي الليل بطوله يتنقّل من عربة إلى أخرى، يحرسها حراسة مشدّدة. إنّه حذر أكثر من اللازم، كي لا يقترب منه سارق ما، أو تأتيه ضربة غادرة من حيث لا يحتسب. إنه المدينيّ الحذر، حتى من ظلّه.

إلا أنّ الأمر كان مختلفًا الليلة. هو الآخر كان واقفًا، ساكنًا، ينظر إلى طرف الشارع من حيث الصوت الأنثوي قادمٌ. لم يكن ظاهرًا عليه الخوف، كان غير مبالٍ في الحقيقة، كان فقط يرى ما يحدث. ظلّ حارس الحي هذا واقفًا ينظر في اتجاه واحد، وبين الحين والحين ينفث دخان سجارته في الهواء، يلقيه على الزمان كما تُلقى القصائد.

بلا شك، إنها فتاة. تركض، تبكي، وتتوسل بأعلى صوتها أن ينقذها شخص ما من سارق سكير يتبعها، كاد يسرق حقيبتها ويضربها، لولا هروبها. 

هل تدرون كيف قدّم لها حارس الليل المساعدة؟ خاطبها بعنف: "يا ابنة الليل، تستنجدين بي؟ ابتعدي من هنا." نظرتُ إلى الساعة، كانت السابعة صباحًا. عجبًا، هل السابعة صباحًا ليل؟ لم تُجبه، استمرت في الصراخ والبكاء والحديث عبر الهاتف بأعلى صوتها. كان يتفرّج، وهذا حقّه، ألا يتدخل خوفًا على نفسه من الأذى أو من أي شيء آخر. لكن أن يفتح فمه، ويرسل كلمات كريهة، شامتًا في المآسي، فهذا لم يكن متوقعًا!

نظرتُ إلى فتاتنا في الشرفة لأبحث عن أية مساعدة محتملة، اختفت. خِلتُ أنها نزلت الدرج لتربّت بيدها على روحٍ ترتجف، إلا أن هذا لم يحدث. عادت إلى فراشها الدافئ. عرفتها في تلك اللحظة مَن تكون. إنها كحارس الليل تمامًا، تشبهه ولا تختلف عنه.

والحقيقة أني تابعت كل شيء، رأيت وجه السكير ووجه الفتاة. كانت تنتظر سيارة أجرة، لها نبرة صوت مرتفعة، ووجه جميل، وقدٌّ متناسق، شعر أسود طويل، ترتدي معطفًا أرجوانيًّا وسروالًا أسود. كانت حزينة. انتظرت الصباح لتستقل أول قطار متوجّه إلى مدينة سلا. سقطت أمها ودخلت المشفى بسبب نزاعات حول الإرث. كانت تنتظر سيارة أجرة، إلى أن خرج السكير من العدم.

منحتُها فرصة لتكون جديرة، إلا أنها عادت للنوم. هذا طبع بني البشر، لا يحبّ توريط نفسه. مواقف كهذه ألفتها، تحدث باستمرار أمام شقتها... أين اختفى الحيّ الثمين الذي زرعته بداخلها؟ إنّي، وأخيرًا، أدركتُ أنهم بلا صفات، لذلك سوف أكون أيضًا بلا صفات، سأحذف ملف بحثها كاملًا هذه المرة، وسأعيد كتابة قدرها كما فعلت سابقًا، مع الكثير من الألم، لنقم الشر إذًا، ولنترك الخير معلّقًا، كجذع شجرة جرفته عاصفة... وليست أي عاصفة.

مجلة فن السرد | مشاتل

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث