في أرفود، حيث لا شيء يتنفس سوى الصمت المطبق الذي يعبر السماء كالرماد، كانت هاجر تكتب على السبورة بدمها: "أنا لست أستاذة فقط، أنا جسر بين الهاوية والنور." كانت تزرع الحروف في أرض قاحلة، مثل زهرة صغيرة تحاول أن تنمو في صحراء جرداء، بينما يختبئ حلمها في عيون تلاميذٍ لا يعرفون كيف يتطلعون إلى المستقبل.
أيامٌ مرت، وهجراتٌ من القيم كان يخفيها الواقع البائس. كان المعهد الذي تعمل فيه أشبه بكهفٍ مهدم، حيث لا يعرف التلاميذ سوى أن الحياة، كما المعارف التي تقدمها، مسألة يومية يجب أن تموت لتسجل في الكتب، ولا شيء غير ذلك. كانت هاجر تعتقد أن التعليم صلاة، وأن كل حرف تقوله قد يعيد بناء الوجود. لكنها، مثل نجمٍ يحترق في سماء مظلمة، بدأت تشعر أن كلماتها تذهب سدى، وأنها تزرع البذور في أرض لا تعرف كيف تُنبت.
في الأسابيع الأخيرة، بدأت تلاحظ أن وجوه التلاميذ لم تعد تسأل، بل تتحدّى. كانوا في صمتهم يحملون السكاكين المخبأة في نظراتهم، وتعلوهم شبح قسوةٍ لا مبرر لها. كانت تشعر بالخذلان كل يوم أكثر، كما لو أن الحبر على السبورة قد جف قبل أن تنتهي من الدرس، وكلما حاولت أن تزرع فيهم فكرة جديدة، كانوا يعيدون محوها في غضون لحظات.
ثم جاء ذلك اليوم المشؤوم، الذي لم يختلف عن غيره في ظاهره، لكنه كان يحمل بين طياته موتًا غير مرئي. دخل تلميذ الفصل، وعيناه مليئتان بالغضب الذي لم يجد له مخرجًا سوى شاقورٍ حاد، بدل الكتاب الذي كان من المفترض أن يحمل بين يديه. لم يكن يبحث عن معرفة، بل عن انتقام لم تولد أسبابه في الفصل ولا في المدرسة، بل كانت أسبابه جرحًا أعمق في المجتمع، جرحًا لا تعرف هاجر كيف تُعلِّمهم علاجه. سقطت هاجر على الأرض، كما تسقط قيمة في وطنٍ ضاع فيه المعنى، كما يسقط حلم على أسوار التاريخ.
نُقلت إلى المستشفى، حيث كانت الحياة والموت على شفا حفرة واحدة. في الغرفة التي كانت تُحارب فيها من أجل التنفس، كان جهاز التنفس الصناعي يئن تحت وطأة الأيام الثقيلة، وكان كل نفس تأخذه وكأنما يخرج من قلب وطنٍ مهدم. كانت تنتظر أن ينقضّ عليها اعترافٌ ما، ولو من تلميذٍ واحد، لكن لا شيء جاء. في جيب معطفها، كانت هناك ورقة صغيرة، كتبت فيها: "التلميذ ليس عدوي، عدوي هو الصمت، هو من سلّمه الشاقور بدل الكتاب، هو من جعلني أخاف أن أشرح الفرق بين الفعل اللازم والفعل المهمل."
وفي جنازتها، كان الحزن أكثر قسوة من موتها. لم يتأخر أحد عن الحضور، لكن الكل جاء يحمل في قلبه ذنبًا لا يعرف كيف يتخلص منه. حتى التلاميذ، الذين كانوا يومًا ما يُنكرون عليها رسالتها، عادوا ليقرأوا درس "الماضي البسيط" مجددًا، لكنهم فهموا – متأخرين – أن بعض الأفعال لا تُبنى للمعلوم، وأن الكلمات التي كانت تكتب على السبورة كانت أكثر حياةً من أي شيء آخر.
هاجر لم تمت، بل كُتبت على السبورة الأخيرة كما يُكتب اسم الوطن في نشيدٍ منسي. "هاجر... شهيدة المعنى التي لم تُهاجر، لأنها كانت الوطن، وكانت المدرسة، وكانت السؤال."
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا