《لقد خلقنا الانسان في كبد》 قرآن كريم
لهفة الانتظار تعتلي المحيا وتقرع طبول القلب كما لو تعلن حربا. يتأبطون معاولهم ويقصدون الأرض الموعودة، الحفر كثيرة والمبتغى مخفي، والأمل معلق بالرؤوس المدببة للفؤوس، تخترق التراب والصخر بقوى السواعد، وتُخرج كل خبء عدا الخبء المبحوث عنه.
_هل عثرت على شيء يامحمود؟
_عثرت على كل شيء عداه
_وماذا سنفعل؟
_نواصل الحفر
الشمس تشوي الجباه المستنجدة بماء الجسد، والصدى يحمل رسائل الفؤوس نحو أعالي الجبل عسى يفك الشيفرة المستعصية، الشيفرة المعجونة بخوارزميات الحياة والموت.
_ يبدو أننا ننقب عن المستحيل.
_ بل إكسير الخلود.
تعلقت فأس بين السماء والأرض لينبري صاحبها صارخا بعد أن يخبطها بكل ما أوتي:
_نحن أغبياء.
اتجهت نحوه الأعين، توقف عن الحفر ملقيا فأسه قريبا من قدميه وأردف:
_ نظل هنا نحفر، ونحفر، ونحفر، بلا معنى، هذا هو الحمق عينه.
_ وما العيب في اقتراف حمق يُدِرّ لقمة تسد الأفواه المنتظِرة؟
خرج من موقع الحفر الخاص به، اندهش الآخرون، ارتجفوا، لم يُقدم أحد من قبل على ترك موقعه في وقت العمل، خشي البعض أن تصيبه صاعقة أو تحل عليه لعنة، فنادوه بالرجوع، لكنه ابتعد أمتارا، استدار نحوهم:
_ ها أنذا، ماذا حدث لي؟
_ علينا أن نحفر ونحفر، لقد وُعدنا بالخلاص، وإن نحن لم نَنَله، فيكفينا ما نتقاضى من أجور.
تطلع فيه مشفقا:
_ ماهو أجرك من هذا العمل؟ دريهمات؟ ثم بعدها، ستطمع في أن يصير أولادك حفارين في بقع أفضل، هه، يا للسخرية.
_السخرية هي أن نتبعك نحو مجهول أفظع، اللهم هذا الذي نحن فيه.
أحنى رأسه واستدار فنظر إلى الجبل:
_ على الأقل، أنت تعترف أن كل هذا الحَفر، ما هو إلا تنقيب في المجهول.
_ مجهول مأجور، خير من مجهول مقبور.
_ ما القبور إلا التي تحفرون
ألقى بكلماته على مسامعهم ومشى نحو الجبل، تابعه رجلان بعينيهما، فتجرّآ، وتبعاه.
كان محمود، الوحيد الذي يتابع الحفر دون انقطاع، تنزلق حبيبات العرق على عروق ساعديه البارزة، وتمطر من جبهته نحو الأرض. واصل الحفر، متجاهلا لغط الحديث المنتشر، إلى أن حلت ساعة الغذاء، رفع رأسه، نظر إلى المنشقين وتنهد:
_ إن هو إلا شقاء واحد، أينما حللنا.
فرش طعامه قرب صخرة ترسم ظلا صغيرا، يأخذ لقيماته وأنفاسَه بإيقاع متزن، اقترب منه كلب بني، دفع إليه كسرة خبز وغمس مثلها في صحن الزيت. عيناه، لم تفارقا متسلقي الجبل إلا قليلا، تنظران إلى القمة ثم إليهم، تقيسان شساعة المسافات المكانية والزمانية التي تفصلهم، لكنهم، اختاروا، اختاروا أن يلقوا بالفؤوس ويرتقوا الجبل.
انتهت دقائق استراحته فجرّ ظله نحو موقعه، حمل فأسه، وراح يحفر.
دارت الهمهمات كثيرا أثناء مكوثه القصير قرب الصخرة:
_ كم هم محظوظون!
_ بل هم هالكون.
_ ماذا لو صدقوا في انشقاقهم عنا؟
_ لن ينالوا شيئا، ألا ترون مقصدهم؟ نحو الشمس، نحو الجحيم.
…
لم يعر المشككين ولا المتعصبين اهتماما، يكفيه ما يعتقده في قلبه، الحفر من أجل الأجر، الحفر، الأجر، حفر، أجر، حـ..جر، حـ…ـر.
ظن المتعصبون أنه يختلي في صومعة إيمانه خاشعا في حفره، وظن المتشككون أنه في عزلة فكرية يقرر بعدها مصيره، بيد أنهُ، أخرسهم بوضع الفأس، والجلوس على حافة الحفرة، ثم النظر نحو قمة الجبل.
مجلة فن السرد | محاكاة
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا