أمنيزيا | بدر الدين إسحق

 ذات صباح، خرج بكامل أناقته متوجهًا إلى مقهى صغير بالقرب من عيادة الأسنان التي تعمل بها، بناءً على اتفاق دار بينهما في الليلة السابقة. لم يستطع النوم بسبب لهفته لذلك الحدث الاستثنائي.

بينما كان في الطريق، تعرض لحادثٍ مروري، وعندما نُقل إلى المستشفى، اكتشف الطبيب أنه أُصيب في رأسه، ما أفقده ذاكرته بشكل كامل. لم يكن يتذكر أي شيء، باستثناء ذلك الموعد غير المكتمل.

بعد خروجه من المستشفى بفترة وجيزة، كان يستيقظ كل يوم بحيوية عالية، يرتدي أجمل ما لديه، يضع عطره، ويتوجه إلى ذلك المقهى. كان يلتقي بها يوميًا لمدة أربع سنوات متتالية، حتى في أيام العطَل، الإجازات، وإضرابات العمل.

لم يكن يتذكر اسمها، ولم يعرف عنها سوى ملامحها التي باتت مألوفة لديه.  يستخدم الأدوية والعقاقير الطبية بشكل دوري، ويصطحبه أفراد أسرته إلى لقاءاتٍ مع عدة أخصائيين... ولكن دون فائدة تُذكر!

وذات يوم، اتصل بهم الطبيب وأخبرهم بأنههم قد توصلوا إلى علاج لحالته النادرة، وأنه سيخضعه لعملية جراحية إذا كان بمقدورهم تحمل تكاليفها. وافقوا على الفور.

بعد العملية بساعات، جلس الطبيب معه وأخبره بما حدث له طوال تلك السنوات الماضية، وأكد له أنه سيشعر بتحسن تدريجي، وستعود له ذاكرته بمرور الوقت، وسيخضع لاختبارات تقييمية.

سأله الطبيب عمَّا إذا كان يستطيع تذكر أي معلومات عن نفسه أو عن حياته أو أفراد عائلته، فأغلق عينيه لبرهةٍ، ثم أجابه بثقة: "نعم!"

ابتسم الطبيب وسأله بلهفة: "ماذا تتذكر؟"

فقال: "أتذكر أن غدًا الأربعاء، لديَّ لقاء عظيم في مقهى بالقرب من عيادة أسنان في وسط المدينة."

تحولت ابتسامة الطبيب إلى نظرة بائسة، وأدرك أن العملية لم تنجح.

في صباح اليوم التالي، التقى بها في ذات الزمان والمكان. لكن هذه المرة، كان يعرف عنها كل شيء:

اسمها، يوم ميلادها، وجبتها المفضلة،  سبب الندبة التي تعلو حاجبها الأيسر، حساسيتها المفرطة، مزاجها المتقلب، متلازماتها الكلامية، مكرها ودهاؤها حينما تتحدث وهي تنظر إلى الأسفل، كمحاولةٍ لتذكر شعور ما... والكثير، الكثير من التفاصيل.

لكنه اكتفى بإلقاء التحية، النظر في عينيها، احتساء القهوة، مراقبتها وهي تتحدث بحماسٍ كبير، وانقباض حاجبيها تارةً وانبساطهما تارةً أخرى تزامنًا مع ما يعتريها من شعور.

كان يرحل مودعًا بنهاية اليوم، ويعود في اليوم التالي متظاهرًا أنه الأربعاء!

مجلة فن السرد | مشاتل