مذكرات زوجة دوستويفسكي وأجمل رواياته | انتصار حسن

الكاتب: Entesar Hassanتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

 

مجلة فن السرد دستويفسكي


بدأت فتاة في العشرين من عمرها في تعلم الاختزال، وهو السماع من الكاتب وتكثيف العبارة ثم اختصار الكلام والكتابة، ثم اختيرت (آنا غريغوريفنا) من بين العشرات لكي تختزل لكاتب كبير وعظيم كان  يبحث عمن يختزل له رواياته، ولطالما قرأت له وتأثرت بكتاباته.

بدأت (آنا) بالعمل في رواية (المقامر)، وتعرفت وقتها على دوستويفسكي عن قرب، حكى لها الكثير عن حياته واطمأن لها.

بعد إكمال الرواية، تسلمت أجرها منه وودعته، لكنها فوجئت بزيارته لها في بيتها، ابتهجت أسرتها كثيرا بتلك الزيارة، فالتفت نحو آنا ليحكي لها مشروع رواية جديدة، أخبرها بأنه احتار ولم يستطع أن يتوصل لنهاية جيدة، وبما أن بطلة الرواية فتاة، فهو يريد مساعدتها لأنها أعلم منه بما يختلج في نفوس الفتيات.

بدأ يسرد لها حياته الخاصة، طفولته القاسية، وحدته بعد وفاة زوجته، كل الملابسات التي حصلت له، وكان من المفترض أن يعود الفنان إلى الحياة من خلال حب يشفيه وينقذه من وحدته.

لم يخطر ببال الفتاة أنها هي المقصودة، فباغتها مرتبكا: ما رأيك؟ هل تستطيع فتاة شابة أن تحب فنانا عجوزا مريضا مثقلا بالديون؟ لنفترض أن الفنان هو أنا والبطلة أنت فما رأيك؟ 

أجابته حينها: لو كان الأمر كذلك لأجبتك أحبك وسأظل أحبك مدى العمر، ابتهج الكاتب يومها وهكذا اتفقا على الزواج.

 كتبت آنا أشياء مهمة جدا عن دوستويفسكي، ووضحت سبب انفعالنا عند قراءة كتاباته، فقد كان يكتب أشياء حدثت، وبعض الأحداث عاشها حقيقة، إذن فليس من الغريب أن نخاف ونبكي ونسعد ونتأثر أثناء القراءة.

مثلا في روايته (الأبله)، التي تتكلم عن شخص مصاب بالصرع، وصف الكاتب تلك الحالة بإتقان.. وما لا يعرفه الكثير عن دوستويفسكي، أنه كان مصابا بالصرع، وقد جاءته أول نوبة وهو في التاسعة من عمره، وظل هذا المرض ملازما له حتى وفاته، وقد تكلمت آنا عن نوبات الصرع التي كانت تنتابه بين الفترة والأخرى، وكيف قلّت بعد زواجهما.

 أما عن مشهد الإعدام الذي ذكره في رواية (الجريمة والعقاب)، فقد وقف في ذلك الموقف، حين صدر ضده حكم بالإعدام _ كان أمرا مدبرا من القيصر _ فرأى دوستويفسكي الموت بعينيه، وفي آخر لحظة صدر قرار العفو، ولكن ذلك المشهد ظل مرسوما في رأس الكاتب، وأصداء تلك التجربة تكررت في العديد من رواياته.

 أما في رواية (المقامر) ،فالكاتب كان مولعا بالقمار في فترة من الفترات ثم تركه نهائيا عن اقتناع ورضا، وحين تكلم عن الفقراء ومعاناتهم ما كان ذاك إلا لأنه عاش ما عاشوه وتعرض لمضايقات الدائنين، حتى أنه اضطر أن يرهن معطفه في ليلة شتائية قارسة، وعاد إلى البيت متجمدا من البرد، وجاءت أصداء هذه التجربة في روايته (المساكين).

 عانت آنا كثيرا في أول ولادة لها، فخاف عليها دوستويفسكي من الموت، ووصف مشهد تلك الولادة في روايته (الشياطين)، وولدت له يومها طفلة لم تعش غير شهور قليلة ثم توفيت، فحزن عليها هو وآنا حزنا شديدا.

وفي رواية (الأخوة كارامازوف) في فصل المؤمنات جاء وصف أم مفجوعة بوليدها الصغير، وقد كتب ذلك المشهد إثر وفاة ابنه الذي ورث عنه مرض الصرع فتوفي في إحدى نوباته الشديدة، وقد تألم دوستويفسكي كثيرا لموته.

وحين تكلم عن المرأة التي تتصدق على المساكين ترحما على روح ابنها، وهي تعلم حق اليقين أنه على قيد الحياة، لم تكن تلك الصورة إلا لمربية طفليه (لوبوف التي أصبحت روائية فيما بعد، وفيودور الذي سمي باسم والده تيمنا به) وهي امرأة عجوز هجرها ابنها ولم يبعث لها حتى رسالة ليطمئنها عليه، وقد كان دوستويفسكي يحن عليها ويعزها كثيرا ودائما يبعث فيها الأمل بعودة ابنها.

عدا كل هذا كان دوستويفسكي يرى تأثير كتاباته على قارئته الأولى، زوجته، فهي تقول في مذكراتها :

عجزت عن الكتابة ذات مرة في موضع من (المراهق) مشهد انتحار الفتاة، فسألني متحيرا: 

- ما بك يا عزيزتي، أنت شاحبة جدا؟

- وصفك أرعبني. 

- يا إلهي هل يعقل أن له تأثيرا لهذه الدرجة؟ اعذريني آسف جدا 

أما عن مشهد الانتحار ذاك، فقد انبهر به كبار النقاد ووصفوه أنه ( من آيات الإعجاز الفني).

لكنه مع كل هذا كان متواضعا وأجابهم أن وصف انتحار أنا كارنينا ( لتولستوي ) يبدو أشد سبكا من وصفه.

كان يقرأ بعض المقتطفات من كتاباته على الناس، وفي مرة من المرات أجهش كل الحاضرين بالبكاء، كان سبب ذلك البكاء هو وصف الحصان القتيل وهو من المشاهد المفزعة والمثيرة، وقد صوره ببراعة في (الجريمة والعقاب). 

سألته آنا في مرة من المرات: لمَ لمْ تتقدم إلي بخطبة عادية؟ ولماذا جئت بتلك المقدمة الطويلة لرواية مختلقة؟!

فأجابها: كنت يائسا.. أعتبر الزواج منك تهورا وجنونا، فالتفاوت بيننا رهيب، أنا عجوز وأنت في عمر الطفولة، وفارق السن بيننا ربع قرن، أنا مريض كئيب سريع الانفعال، وأنت مفعمة بالحيوية والمرح.

فقالت له حينها: لا أبدا، فالتفاوت بيننا ليس فيما تقول، التفاوت الحقيقي أنك اخترت فتاة متخلفة، لم تقترب شبرا من مستواك الثقافي في يوم من الأيام.

أجابها: كنت مترددا.. أخشى أن أكون مثار سخرية لو رفضت، لذلك اختلقت تلك الرواية ليسهل علي تحمل رفضك، إذ سيكون موجها لبطل الرواية وليس ضدي شخصيا، و بهذا كنت أستطيع الاحتفاظ بصداقتك على الأقل، ولكن على أي حال، إن تلك الرواية المختلقة هي أفضل رواياتي على الإطلاق  فقد عادت علي بالثمار رأسا.

بقلم : انتصار حسن

مجلة فن السرد | قراءات ودراسات

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث