الطبيبة | بلال الخوخي

الكاتب: بلال.ختاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

 

مجلة فن السرد

شرحتُ لها كل شيء عن الثقل الذي أحسه فوق كاهلي، عن التخبطات المستشرية في حياتي، وكلما زدت كلمة أو تفصيلة، زاد صمتها وتعاظم تمعنها، كأنها تنبش في كلماتي بحثا عن مفاتيح تفك بها شفرة معاناتي. حكيت لها عن الجرح الغائر المتولد من…   

"من ماذا؟"

نفس السؤال المتبادر إلى ذهن أي واحد يلمح الغصة الحائلة دون اكتمال الجملة، طَرَحَته عليّ بصوت بارد وتعابير جامدة: "من ماذا؟". وجَدتُني أتحايل على الألفاظ كي أحكي، لأن الكلمات، قد تلطف من وقع المشهد الوافد على الذاكرة، وقد تحييه كما هو، بكل تفاصيله الدقيقة الموغلة في الألم. لقد أحسّت باضطرابي، والتقطَت التلميحات، ففهِمَت، وصمتت.

ظللنا صامتتين لدقائق، أنتظر منها أن تستأصل الورم من ذاكرتي، لكنها نهضت وبدأت تتمشى في الغرفة. راودني الشك في كونها طبيبة نفسية، هل أخطأت حين أفضيت لها؟ ها قد صرت جثة عارية على مشرحتها، وبيدها أن تفعل بي ما تشاء، ولن يتاح لي الهرب من قبضتها إن هي قررت ذلك، لأننا، متى ننكشف أمام الآخر، نصبح أسرى في زنازين رحمته.

مشيها الرتيب ذهابا وإيابا، جعلني أحس بانقباض يتصاعد داخلي، ارتفعت حرارتي، شعرت بقطرات العرق تنساب تحت إبطي، حككتها ونهضت صارخة: "ألن تتكلمي؟". توقفَتْ، نظرَتْ في عينيّ، نظرْتُ في عينيها، طاقة خفية نبعت من ألمي. اقتربَت نحوي؛ ارتبكْتُ، لكني صمدت، رغم وقع أنفاسي المسموع.

سألتْني: "أيحدث أحيانا، أن تشعري أن برفقتك شخصا ما؟"، تجمدْتُ، لم أعرف كيف أجيب، فاقتنصت هذه الكيف، وقلت: "كيف؟"، همسَت بعد أن قربَت وجهها إلى وجهي فلم يعد بين أنفينا قيد أنملة: "هل تحسين أنك مراقَبة؟ أو، هل ترين تهيؤات وتخيلات لبشر لاوجود لهم؟".

أومأْت برأسي نافية، فتراجعَت وجلست على كرسيها، نظرَت نحو الكرسي الفارغ حيث يتوجب عليّ الجلوس كمريضة، وقالت: "الأمر واضح، وأنتِ، تحاولين الهروب منه، لكن اعلمي، أن الهروب لن يتحقق، إلا بالمواجهة". رفعت رأسها تجاهي: "تحدثْتِ عن زوجك قليلا، لكن في معرض كلامك، أفصحت أنك تشعرين وكأنه… شخص آخر، كأن أحدا يتقمص جسده، إنه في نظرك، نسخة مزيفة"، تقدمتُ إلى الكرسي، استندت بيدي على ظهره دون أن أجلس، تنهدْتُ: "كان محض إحساس عابر، سوء تقدير مني لرد فعله، طالما انزعج من كوني كثيرة التذمر، أتذمر لأبسط الأسباب، غير أنه، هذه المرة، تصرف ببرود، تجاهل انزعاجي وانصرف إلى مشاغله"، رفعت يدها إلى ذقنها مفكرة: "هنالك إشارات على متلازمة كابغراس، لكن، لا يتوجب الاستعجال، خصوصا، وأن حادثة الطفولة لازالت تتجسد في أحلامك، وإن بصيغ مختلفة؛ السكين التي تشقين بها وجهك، قفزك من علو شاهق، انصهار ملامحك أمام المرآة، هروبك في الصحراء ركضا. هناك خيط رفيع بينها، عليّ أن أمسك بطرفه"، تابعَتْ حديثها في الوقت الذي انشغلت فيه بالأصوات الوافدة من خلف الباب، التفَتُّ، رأيت المقبض يتحرك، وانفتح الباب ببطء.

دخل زوجي، كان مبتسما، نظر إليّ وقال بحنان: 

"مرحبا عزيزتي"

 وقفْتُ مصدومة، فواصل دون أن تبدو عليه أي ملاحظة لاضطرابي:

 "مع من كنت تتحدثين؟"

مجلة فن السرد | محاكاة

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث