قِسمةٌ عُدِلَ فيها | نزار لعرج

الكاتب: نزار لعرجتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

 

مجلة فن السرد


يغمض عينيه تتجلى، يفتحهما تختفي، هل يمكنني أن أغفو إلى الأبد؟ يسأل نفسه، لا أحد يجيب، يغمض فيعود بذاكرته إلى يوم ربيعي هادئ، على ضفاف الغدير، قالت له اكتب لي قصيدة شعرية، سقط في فخ الكتابة ليكسر عشرين ضلعا في جسمه، بعدما كان يقرأ لها شعر شعراء يتشاركان حبهم. الكتابة عمل شاق، لم يكن يتحدث كثيرا وهي بقربه، وكأنه لا يريد تلويث اللحظة بالكلام، كان يفضل أن يمعن النظر فيها، رغم أنه لم يمعن النظر في شيء من قبل، كان يتجاوز كل الأشياء المحيطة به، ويكتب لا لشيء إلا لأن العالم لا يسعهما مع كل هذا الصخب، أما الكتابة فهي ملاذهما الآمن والهادئ. 

يشرد ذهنه قليلا ليبحر في خياله، فتعيده بتشغيل أغنية "يا مسافر وحدك"، كان يفهمها في صمتها وكلامها، ضحكتها تخمد النيران داخل رأسه. عاشا خارج الزمن، كل ما كان يهمهما هو المكان. لماذا تزورني على ضفاف الغدير فقط؟ لم يفكك ولا مرة قطع هذه الأحجية، لم يلتقط من قبل هذا العبق الفواح، حضرت متثاقلة الخطى، لمست شعره ومضت في طريقها غير مكترثة، كانت اللحظة كبداياتهما معا، هادئة، جميلة وفيها ما فيها من غموض وإيهام، استعمل السبابة ثم الإبهام، وأحكم القبضة بكل أصابعه، أراد أن يمسك اللحظة بكل ما أوتي من قوة، ولكنها تلاشت.

 تبعها بعينيه تضمحل كأنها دخان مثقل بأحاسيسه، يجلس  مستسلما غير قادر على الحركة، فتح عينيه مذهولا، أخذ قلما وورقة بيضاء من جيب معطفه، تذكر يوم وعدها بمواصلة الكتابة، صام عن الحبر منذ أن غادرت عالمه، ولكنه سيفطر حتما الآن، مد يده إلى الورقة التي خاصمها، يتبادلان النظرات، يبصر الجمال حتى في عيوبها وتقبل منه انسكاب الدمعات، يكاد يُقسم أنها ورقة ليست كباقي الورقات، ربما لأنها كانت هي، آخر شخص لمسها، يراها لم تتسخ بعد بصرف الدهر، وتراه هشا يائسا أكله القهر، هو لا يريدها أن تتخلى عن بياضها الفاتن فيدعي القفلة، أي قفلة؟ ربما قفلة ما بعد القبلة الأخيرة، وهي تخبره أن لا خريف يسقطها وهو؟ هو خلق كما النغم الحزين ليكتب.. ليكتب  حتى آخر قطرة دم ومداد، رحلت دون أن تودعه ومنعه عمها من تقبيل جبينها للمرة الأخيرة، ولكنها تسكنه فلمَ يبحث عنها في الخارج، يتساءل، قضى اليوم كله جالسا أمام باب منزلها يتوسل كل أفراد العائلة، ومن خلف نظاراته السوداء يختبئ الأرق وتتوارى الحسرة، ولكن الحزن يشق حتى الجبال ليخرج، تنهد قائلا: "لم تغب عن بالي ولو لبرهة" وهو يتصفح نصا، هذا النص، الذي كان باكورة أعماله المنشورة، ليكتب بعده خمس روايات جالت اليابسة وقطعت البحار، ولكنه يغمض كل مرة في بيته الذي اشتراه على ضفاف الغدير، النص في يده والسقف متلبد بالدخان محاولا استدعاءها، وهو يكرر: قسمة عدل فيها والله إنها لقسمة عدل فيها فنم قليلا يا إنسان، لعلها ترفق بحالك وتأتي لتأخذك إلى الأبد.


التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث