…حينها سألني: "كيف يكون النفس الأخير؟ أ شهيق هو، أم زفير؟"، استرعاني السؤال للحظات، إلا أنني استدركت حالي، فماذا تهم المعرفة في هذا الحال؟ لا هي تضيف شهقة ولا زفرة.
أخذت بيده بعد أن أودعْنا جاري مثواه الأخير، ومسحت على رأسه: "المهم هو حسن الخاتمة، سواء كانت النهاية شهيقا أو زفيرا".
انفض الناس كل إلى سعيه الدؤوب، فتوجهنا _بدورنا_ نحو باب المقابر. جذبه منظر "العسلية" المرصوصة فوق صحن ألومنيوم كبير، جعل ينظر إليه باشتهاء الطفولة الأبدي للحلوى، فأخذت قطعة ورق من بائعها وحملت بواسطتها واحدة، مددتها إليه فتلقفها بيمناه، غمسها في السائل العسلي والتهمها.
انتشلني من ابتسامتي الشاردة: "ما الذي يضحكك جدي؟"، أجبته وقد زاد اتساع ابتسامتي: "أنا لا أضحك، بل أبتسم."، ذُهل كما لو اكتشف كنزا: "وهل بينهما فرق؟"، فضحكت هذه المرة: "فرق كبير يا بني".
أشرعت الباب الخشبي للدكان، فبادر أمين إلى مساعدتي في حمل صناديق الخضر وإخراجها، شكلنا بواسطتها قوسا يحيط بالباب كي يتسنى للزبناء المشاهدة والاختيار، وبالتالي اقتناء ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم.
هيأت مقعدي حيث تنفرج الزاوية لمشاهدةٍ شاملة للسوق، أما أمين فاختار اللعب بالأقلام والأوراق داخل الدكان.
ظل الناس يعبرون أمامي كالظلال، فقد انطوت عيناي إلى داخل ذاكرتي تتأمل أياما كنت أجالس فيها جاري عبد القادر في المقهى، نشاهد مباراة أو نجتر أحاديث متشعبة المواضيع، تجلى أمامي وهو يرشف قهوته ويدافع _كالعادة_ عن رأيه حول الأرض المسطحة، فأخبره أن هناك أرضان مسطحتان: "أرض إدوين إبوت* وجبهتك"، فيضحك ويعود إلى جديته في الدفاع عن رأيه.
انتبهت إلى رجل ينتقي حبات فلفل فمددت له كيسا بلاستيكيا أبيض، دس فيه ثلاث حبات، بعد أن قيّمتها بالميزان استغرب من ثمنها المرتفع: "ثلاث حبات بست دراهم؟"، أجبته مبررا: "أنت تعلم أن هذا ليس وقت الفلفل، ولذلك يرتفع ثمنه لندرته". أخذ الكيس واختفى في الزحام، توافد بعده الناس بين سائل ومتفحص ومقتنٍ، فانهمكت في الإجابة وإعادة الترتيب وعد النقود. وقف عليَّ أمين فقرأت في عينيه علامة الملل؛ علمت أنه يود الانسحاب إلى الحي ليلعب مع أقرانه، أذنت له بذلك وعدت إلى مقعدي بعد هدوء البيع.
خفت ضوء النهار واكتسى الجو مسحةً باردة، فطلع من جانب السوق الأيمن الحاج قدور متأبطا لوح الداما، أبدى لي ابتسامة عريضة وحركة يد متوعدة، فأجبته بإشارة موحيا إليه أن لا أمل عنده في التغلب عليّ. أخرجت من الداخل صندوقين فارغين، فرشت على أحدهما بعض قطع الكرطون، ووضعت الثاني بيننا كمائدة، ثم ناديت على فؤاد (نادل المقهى المجاور) كي يمدنا بكأسَيْ شاي منعنع.
أفرغ الحاج قدور قطع اللعب فوق لوح الداما، وبمجرد ما رأيتها تتدحرج بعشوائيتها الجميلة قلت له:
_ أجمل إعادة تدوير في التاريخ هي جعل سدادات قنينات الغاز قطعَ لعب.
أجابني:
_ هذا القول كان يردده سي عبد القادر يرحمه الله.
_ يرحمه الله.
_ لكنه ليس معك اليوم كي ينجدك مني، جهز نفسك للهزيمة.
ضحكت:
_ حسنا إذن، فلنر ما تستطيعه.
رتبنا القطع ومنحْنا هذا البساط الصغير جزءا من بساط حياتنا، ندفع كل قطعة كي تؤدي دورها في المعارك اللانهائية، جولة فجولة إلى أن يفوز أحدنا بثلاثٍ فذاك "حَيْط".
تأخر فؤاد بالشاي فكررت النداء عليه: "هل تعد شاينا فوق قداحة؟"، أجابني أن سيحضره حالا، بينما ضحك الحاج قدور: "العب، العب، أما الشاي فدعه للنهاية كي تتجرع به هزيمتك"، شاركته الضحك وانغمسنا في جولتنا الرابعة، وإذ نحن كذلك حتى صدنا صوت ناهر: "أهذا ما يساويه صديقكما؟ أن تصليا على روحه بواسطة الداما؟"، استدرنا معا لنواجه ولد سي عبد القادر الذي تابع: "ما ظننتكما ستنسيانه بهذه البساطة، كيف هان عليكما فراقه؟"، كان صوته مضمخا بنشيج واضح، فاختلط مع أذان المغرب وهرج السوق، بعض الناس يمرون ويحملقون، وآخرون يحوقلون، أما أحسنهم حالا فيتقدم ويطبطب على ظهره مهدئا إياه.
نهضت وتوجهت إليه دون أن أنبس بكلمة، فضممته، مست وجنتي وجنته المبللة، فلم أملك لدموعي ردا، وهدّتني مشاعري هدّا. قدِم فؤاد حاملا الكأسين المتنفسين بخارا راقصا، تسللت إلى خياشيمي رائحة لم تستطع معها مشاعر الألم ردع الاشتهاء، فألم الفقدان الذي يعصر قلبي تواجهه رغبة لعب الداما وشرب الشاي، ولا أقدر على تغليب جزء من الأحاسيس على جزء آخر، بل هي هكذا، مختلطة، تشكلني كما أنا. عز عليّ أن أجرح الولد المكلوم أكثر فدعوته للجلوس حتى يرتاح قليلا، فلبى بعد أن هدأ إلا من خرخرات متفرقة، مددت له كأس شاي فأمسكه بين يديه، وطلبت من فؤاد أن يحضر لي كأسا ثالثة.
جلسنا ثلاثتنا، كل يمسك كأسه، نكتفي بالنظر في جميع الاتجاهات عدا إلى وجوه بعضنا، أو هذا ما فعلته أنا على الأقل. عاد السوق إلى حاله تحت أضواء الليل، وتحركت الدنيا، أما الشيء الوحيد الذي لم يتغير، لوح الداما، ظل منتظرا حركتنا التالية، في الجولة الرابعة.
_______________________________
إدوين إبوت*: كاتب رواية "الأرض المسطحة-قصة خيالية متعددة الأبعاد"
مجلة فن السرد | محاكاة
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا