من الفن الرقمي إلى الفن الإنغماسي..أي مستقبل للفن المعاصر؟ | عزالدين بوركة

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق


مجلة فن السرد

من الفن الرقمي إلى الفن الإنغماسي

أي مستقبل للفن المعاصر؟

 

عزالدين بوركة


·       من الأصالة إلى التفرد

يعرّف آرتر دانتو الفن المعاصر على أنه "فنّ ما بعد تاريخي" (post-historical)، إذ يقع أبعد من حدود التاريخ الفني، في جغرافيات كل شيء فيها مباح. ولا شيء ينفلت من متاهته الكبرى، التي بمقدورها أن تستوعب كل الأشكال والألوان والتعابير الجديدة التي تتوه بداخل دروبها المتشعبة.. كل جديد هو جزء من هذا البراديغم paradigme الملتبس، الذي يصعب توصيفه وتحديد ماهيته تعريفا مضبوطا شافيا كافيا.

تقع المعاصرة حيث تمحى الحدود وتختفي التخوم، إنها وليدة الارتياب والانصهار الجغرافي، تسمح بانتقال التخصصات في أرخبيل وحاد واسع وشاسع. لهذا فالتبخر صفتها الجوهرية.. وهو ما يسمح لهذا الفن ما بعد الحداثي أن يتأقلم مع كل تغيير وتجديد. ومن بين تلك التحولات الكبرى في الممارسة الفنية سواء من حيث طرق الاشتغال أو الأسندة المبتكرة.. يعمل الفن الرقمي على إحداث فجوة كبرى في مفهوم الفن ويضعه إزاء أزمة صارخة. لقد استبدل الفنان المعاصر السند الكلاسيكي المتعارف عليها (القماشة، الحجر [الطين، الرخام...])، ولم يعد في حاجة لأي خلفية ملموسة ستعامل معها بحساسية تامة، ولا حوامل ولا جدران يتكئ عليها العمل الفني.. إنه نتاج لمفاهيم وتصورات ولخورزميات وحسابات وبرامج حاسوبية، وأما المادة فتكاد تصير مجرد مصوغ أو مطية ظاهراتية، ولم نعد إزاءه في حاجة لأي محافظين وأمناء متاحف تقليديين، إنه موجود في كل مكان وفي اللامكان، مستعصي على التخزين في أحايين كثيرة.. أو قابل للحفظ في شريحة ذاكرة صغيرة، مما يسمح بنسخه المتكرر؛ فقد ألغي عن الفن صفة الفرادة Originalité (الأصالة) لصالح التفرد singularité. وهو ما أفقد العمل الفني هالته -بتعبير والتر بنيامين؛ وساهم فعليا في إلغاء صيغة القدسية عن كل منتوج فني.. فكل ما ينتجه الفنان دنيوي لا صفة متعالية أو مفارقة فيه.

·       التحول الجذري في طبيعة الفن: عالم انغماسي

إذا كان الفن الرقمي قد نجح في زعزعة المعايير التقليدية للفن، فإن الفن الانغماسي (l’art immersif) جاء ليجعل التجربة الفنية أكثر جسدية، حسية، وتفاعلية؛ وهو على النقيض من الصورة ثنائية الأبعاد التقليدية، يغمر المشاهد في صورة تملأ الفضاء، مثل مادة سائلة. وبالتالي، قد يتمكن المشاهد من التحرك هناك، ويفقد الاتصال بالعالم الحقيقي.. لقد خرج العمل الفني من ثنائية المتفرج-الموضوع، ليصبح تجربة ذاتية كلية، حيث لم يعد المشاهد متلقيًا سلبيًا، بل مشاركًا فاعلًا في العمل، يذوب فيه ويتحول إلى جزء منه. نحن أمام لحظة جديدة في تاريخ الفن، حيث تتلاشى المسافة بين العمل الفني والجمهور، ليصبح الفن بيئة حية تتنفس بالزمن، تتحرك بالضوء، وتستجيب للتفاعل البشري.

بهذا المعنى، يمكن القول إن الفن الانغماسي لا يمثل مجرد امتداد للفن الرقمي، بل هو تحول أنطولوجي في طبيعة التجربة الإستتيقية نفسها. فالممارسة الفنية لم تعد محصورة في الإبداع المادي أو التصويري، بل أصبحت تتعلق بصنع عوالم متكاملة تحيط بالمشاهد وتبتلعه. إننا أمام تحول من الفن بوصفه شيئا معروضا إلى الفن بعدّه تجربة كلية، تحكمها برمجيات تفاعلية وحسابات رياضية دقيقة. وهذا التحول يتحدى ليس فقط تقاليد العرض الفني، ولكن أيضًا طبيعة الإدراك البشري ذاته، حيث تصبح حدود الواقع والسيولة الرقمية متشابكة.

إن مثل هذا التحول الجذري يدفعنا إلى مساءلة مستقبل الفن ذاته: هل ما زال من الممكن الحديث عن عمل فني مستقل بذاته في عصر الفنون الغامرة؟ هل يمكننا التمسك بمفاهيم الأصالة والفرادة عندما يصبح العمل الفني فضاءً مشتركًا بين الفنان والجمهور؟ وهل يمكن أن تكون هذه التجارب الرقمية بديلاً عن التجربة الجمالية التقليدية التي لطالما كانت تقوم على التأمل والمسافة الجمالية؟

من جهة أخرى، يطرح الفن الانغماسي سؤالًا فلسفيًا حول علاقة الفن بالزمن والمكان. لقد كان الفن الكلاسيكي دائمًا يراهن على خلوده، على قدرته على تجاوز الزمن، أما اليوم فنحن أمام فن مؤقت، متغير، قابل للاختفاء أو التحديث المستمر. إذا كانت الفنون التقليدية تطمح إلى الخلود، فإن الفنون الرقمية والانغماسية تتماهى مع فكرة الزوال واللحظية، حيث يتحول العمل الفني إلى تجربة وقتية غير قابلة للإعادة بذات الشكل، بل هو أشبه بحالة عابرة من الإدراك والتفاعل.

وهنا نصل إلى جوهر المسألة: هل الفن الانغماسي هو إحياء للفن بوصفه تجربة حية، أم أنه إعلان عن نهاية الفن كما عرفناه؟ إذا كان والتر بنيامين قد تحدث عن فقدان الهالة في عصر إعادة الإنتاج التقني، فإننا اليوم أمام فن بلا أصل، بلا هالة، بلا إمكانية للحفظ إلا في ذاكرة البرمجيات وقواعد البيانات. هل هذا يعني أننا في طور استبدال الفن كقيمة جمالية بتحوله إلى تجربة حسية فحسب؟ أم أن هذه الممارسات الجديدة تقدم رؤية بديلة للفن بوصفه عملية حية وديناميكية، وليس مجرد منتج نهائي ثابت؟

إن كل من الفن الرقمي والانغماسي يقوداننا إلى إعادة التفكير في مفاهيم الفن والقيمة والإدراك الحسي. هل نحن أمام فن يولد ليُنسى؟ أم أن نسيانيته هي شرط وجوده؟ بين التفاعل والانمحاء، بين التجربة والذاكرة، يظل الفن المعاصر، في صيغته الرقمية والانغماسية، يختبر حدود نفسه، ويدفعنا إلى إعادة تعريف علاقتنا بالجمال، بالفن، وبالواقع ذاته.

·       نماذج: تحليل الضوء واسقاطاته

إن التطور الذي شهده الفن المعاصر، من الفن الرقمي إلى الفن الانغماسي، يعكس إذن، تحولات جذرية في العلاقة بين العمل الفني والمتلقي. فالممارسة الفنية لم تعد تقتصر على إنتاج أعمال تعرض في قاعات المتاحف وفق معايير تقليدية، بل أصبحت تجربة حسية وذهنية تُعيد صياغة الحدود بين الفن والتكنولوجيا والفضاء الاجتماعي.

يعدّ عمل سارة سيز (Sarah Sze) في معرض "Timelapse" [تصوير الفاصل الزمني] بمتحف غوغنهايم مثالًا بارزا للفن الانغماسي، حيث تدمج الفنانة بين المادي والرقمي في تجربة تستكشف إدراكنا للزمن والمكان. توظف أعمالها المواد اليومية مع الإسقاطات الرقمية لإنشاء فضاءات متغيرة باستمرار، تُشرك المشاهد في عملية تأمل دائمة حول معنى الوجود والتغير المستمر للعالم من حولنا. في هذا السياق، لا يصبح العمل الفني مجرد موضوع للتأمل السلبي، بل يتحول إلى عملية تفاعلية ديناميكية تشرك المتلقي في إنتاج المعنى نفسه، مما يتماشى مع رؤية آرثر دانتو للفن ما بعد التاريخي، حيث تصبح كل تجربة فنية جزءًا من خطاب مفتوح غير محدد بحدود ثابتة.

مجلة فن السرد

من جهة أخرى، يشكل معرض"Never Alone"  [لن تكون وحيدا أبدا] في متحف MoMA نموذجًا آخر للفن التفاعلي، حيث يدمج بين تصميم الألعاب والفن الرقمي، مؤكدًا على أن حدود الممارسات الفنية تتداخل مع عوالم أخرى مثل البرمجة والتقنيات الرقمية. يتضمن المعرض أعمالًا تتراوح من الرموز الرقمية إلى ألعاب الفيديو التي تتناول قضايا ثقافية واجتماعية، مثل لعبة Never Alone التي تسلط الضوء على التراث الإينويتّي (Inuit) من خلال السرد البصري التفاعلي. هذا الدمج بين الفن والتقنيات الرقمية يخلق سياقات جديدة لإدراك الفن بوصفه تجربة حية ومتغيرة، ويطرح أسئلة فلسفية حول طبيعة الإبداع في العصر الرقمي، حيث يمكن للمتلقي أن يتحول إلى مبدع مشارك، بدلاً من كونه مستهلكًا سلبيًا. إذ يتناول هذا الحدث-معرض كيف يشكل الانخراط في التصميم التفاعلي كيفية تصرفنا وتعلمنا وتفاعلنا مع العالم. إنه أيضًا استكشاف لكيفية قدرة ألعاب الفيديو على ربطنا وإنشاء مجتمعات.

مجلة فن السرد

على المستوى العربي، نجد أن بعض الفنانين العرب تبنوا هذا الاتجاه، مثل في أعمال منى حفايظ عباس، وبالأخص في Luminescences [التوهجات]، لا تكتفي الفنانة بتقديم تجربة بصرية محضة، بل تفتح بوابة فلسفية تتقاطع فيها أسئلة الهوية، الزمن، والتفاعل بين المادة والضوء، بين الثابت والمتحوّل، بين الواقعي والافتراضي. العمل يتجاوز كونه مجرد إسقاطات ضوئية على أشكال ثلاثية الأبعاد، بل يشكّل سردية متجددة تسائل علاقتنا بالعالم المادي والرقمي، حيث لا يعود الضوء مجرد وسيط للإبصار، بل يصبح هو ذاته بنيةً تشكيلية، حضورًا قاهرًا يحدّد ماهية الأشياء في فضاء غير قارٍّ، حيث تنصهر الحدود بين الكائنات والآلات، بين الأسطوري والتكنولوجي، بين العضوي والمُصنّع. إن "التوهّج" في هذا السياق ليس مجرد صفة ضوئية، بل حالة وجودية تتجاوز المادة وتُعيد مساءلتها، حيث يصبح التفاعل بين الضوء والفراغ أشبه برقصة أنطولوجية، تذكّرنا بأن الكينونة ذاتها ليست سوى انبثاقات متقطّعة في نسيج الزمن. وتلك الكائنات، التي تسقطها ضوءا الفنانة، ليست مجرّد تجسيدات لخيالات بدائية، بل تمثيلات جديدة للكائن ما بعد البشري، حيث تتلاقى التكنولوجيا مع الأسطورة، ويصبح الجسد نفسه غير مستقرّ، محكومًا بحركية الضوء وتحولاته. في هذا الصدد، فإن عملها يقترب من أطروحات الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز حول "التحول" و"التعدد"، حيث لا يعود الجسدُ هويةً مغلقة، بل فضاءً مفتوحًا على إمكانيات لا نهائية من التشكل، متحرّرًا من ثباته الميتافيزيقي القديم. غير أن حفايظ عباس تضيف بعدًا تكنولوجيًا أكثر تفاعلًا، من خلال استخدام الفيديو مابينغ والبرمجيات الحديثة التي تجعل من الضوء ليس مجرد وسيط، بل كائنًا حيًا، ينبض ويتحوّل، يكوّن ويمحو، يخلق ويعيد التشكيل في دورة لا نهائية من الصيرورة.

مجلة فن السرد


·       الانغماس كليا

كما أن تفاعل الضوء مع المادة في هذه الأعمال وغيرها يصبح فيها الضوء كيانًا له ثقل أنطولوجي خاص، يفرض حضوره بطريقة تخلق فضاءات إدراكية جديدة، يتجاوز فيها المتلقي مجرد المشاهدة ليصبح جزءًا من العمل ذاته، إذ يفرض الضوء عليه إعادة التفكير في حدوده الإدراكية وفي كيفية استقباله للأشياء من حوله.

وبذلك، فإن الفن الانغماسي لا تمثل فقط تجربة فنية، بل هي تجربة فكرية تدفعنا إلى إعادة التفكير في علاقتنا بالعالم الحسيّ، في زمن أصبح فيه الضوء مرادفًا للمعلومة، والوجود مرتهنًا للرقمي، والصورة أكثر تأثيرًا من الأصل. في هذا الامتزاج بين الجسد والضوء، بين الميثولوجيا والذكاء الاصطناعي، تكمن رؤية فنية تستبصر مستقبلًا يكون فيه الإنسان كائنًا ضوئيًا، مزيجًا من البيولوجي والافتراضي، كيانًا لا ينتمي إلى ماضٍ ثابت، بل إلى مستقبل يتوهّج دائمًا، في بحث لا ينتهي عن ذاته.

في ظل هذه التطورات، يبدو أن مستقبل الفن المعاصر يتجه نحو تجاوز المفاهيم التقليدية للجمال والتمثيل، ليصبح تجربة انغماسية كلية، حيث تتشابك التكنولوجيا مع الإدراك الإنساني في مستويات متعددة. وهذا يثير تساؤلات فلسفية عميقة حول معنى الأصالة في الفن الرقمي، ودور المتلقي في تشكيل التجربة الفنية، وحدود الممارسة الفنية في زمن التكنولوجيا المطلقة. فهل يمكننا القول إننا نشهد ولادة نمط جديد من الفن، حيث يصبح الإدراك والتفاعل جوهر العمل الفني بدلًا من المادة نفسها؟

مجلة فن السرد | قراءات ودراسات

 

  

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث