مَلاكُ الرُّعب | محمد اكويندي

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق
قصة قصيرة مجلة فن السرد رعب الرعب


 السماء مُلبدة بالغيوم ، والجوُّ غائم وماطر، والكل كان متدثرا بالملابس الثقيلة الواقية للشتاء والبرد. هدير الحافلة يهدهد أجساد المسافرين. وكأن الرحلة بدأت مع نقرات أناملها فوق عضلة فخذي .

في الخارج رذاذ المطر يحاكي إيقاع رؤوس أنامل السيدة في الداخل. أحيانا تكون أمنية كل مسافر الجلوس إلي قرب إنسان يرتاح إليه.

أحيانا، كانت أمنيتي في تلك السفرة تنشد التفرد بقراءة كتاب جديد. كذب من قال : إن الكتاب ضرّة للمرأة في الدار، أو في السفر، بل هو سفير من عقل إلى آخر، ومن مكتبة إلى أخرى، ورحّالةٌ مِن بلد إلى بلد، وبوابة للحوار، والتعارف.

فجأة ، تنبهتْ السيدة لأناملها ، وتوقفت عن النقر، اعتذرت إلي بوجه اصطبغ بِحُمْرة الخجل، أجبتها بإيماءة من رأسي عن اعتذارها. كنتُ أعرف مثل هاته الحركات الخارجة عن إرادتنا. كمْ مِنْ مرّةٍ ضبطتُ فيها يدي سارحة في غابة شعرنا الخفي ، ونحن نياما !

كانت سيدة هيفاء، بملامح باهرة الجمال، عينان نجلاوان، يبدو منهما بريق شعاع تعبيرا عن الفرح والانتشاء لهذه السفرة، وهي لاتستقر على حال، تارة تحجب ستارة النافذة، وأخرى تزيحها جانبا . سمحتْ لسبابتها النحيفة والطويلة أن تتعقب خطوط ماء متعرجة خلفتها قطرات الشتاء فوق لوح زجاج النافذة ..فرحٌ طُفولي، أعادني لقولة نِتشه :المرأة طفل كبير..

حَملتْ الكتاب من فوق ركبتي دون إذن مني، وأخذت تقرأ عنوانه بصوت مسموع: فن الحب عند إريك فروم !

نظرت إليّ نظرةً باسمةً ، وقالت :

-أما زِلْتَ تُحّب؟

غالبتُ نظرةً ودودةً، وأجبتها:

-الحب يصون ويوّطد أقدام الانسان على الأرض المتواجد فيها، ليتجاوز نظام الزمن والفناء إلى نظام الأبدية حيث البقاء الأصيل. تفحصت بعينيها مكان نقرات أناملها ..إلا أن نسيج ثوب سروالي الجينز الباهت اللون، تشرب رشح رؤوس أناملها . أدارتْ ظهرها إلى ناحية النافذة المبللة بقطرات المطر. فبدت سيدة حقيقة وافرة اللحم ، بأكتاف عريضة ، ورقبة طويلة بيضاء بياض الثلج  بارزة جدا ، تُطوّقها سلسلة ذهبية رقيقة، زاد لمعانها بهاءً إضافياً للبياض . فعلا إنها امرأة لا تخرج من الجسد المكتنز الذي يكتنفها، كانت مرحة لا تستقر على وضع، كسمكة في يد صياد، انتشلها للتو من الماء، بِخفّةِ حركاتها الرشيقة والمندفعة، الطوّاقة للانعتاق، من أسر ضيق المقعد . قالت لي :

-أنا أحب مدينة آسفي. هل أنْتَ مُعلم هناك؟

أجبتها بالنّفي :

-لأ، إن سفري مجرد هروب من المدينة !

 ضحكت وعقبت ساخرة:

-تهرب من المدينة إلى المدينة؟

أهرب من المدن الكبيرة التي تعيش الضياع والبؤس والانحلال إلى المدن الصغيرة الهادئة.

كانت تذكرة سفري تحمل رقم سبعة، وهو الرقم الذي ذكرني بالرّسْمةِ التي ترسمها أسراب الطيورالمهاجرة في السماء(٧) هذه الرسمة ينعتها المتصوفة بالإشارة الالهية، وهناك من يقول بأنها أوحت بشكلها الشبيه برأس الرمح، لصناع القوارب باتخذها مقدمة لمراكبهم ، حتى تتغلب على تيار الماء القوي وتخرقه بمقدمتها فاسحة الطريق لباقي هيكل القارب المندفع إلى الأمام، والأمر سِيّان عند سرب الطيور في مواجهة تيار الهواء القوي في السماء. وامتدادا للطيور اتخذت الطائرات حتى هي شكل رسمة السرب لنفس الغاية في اختراق التيار الهوائي المضاد لها..

أغلقت السيدة دفتي كتاب إيريك فروم، ووضعته فوق فخذي، وهي تسألني: هل هذه هي بلدة الزاوية؟

أجبتها : لأ ، هذه جمعة سحيم.

دخان الشواء، والدكاكين المصطفة، والحياة الصاخبة والضاجة بالسوقة والمسافرين. طلب منا مساعدة السائق ربع ساعة للتوقف.. هبطتُ الدرجات الثلاث للحافلة وقصدتُ مقهى شعبي ، كانت السيدة تتعقب خطواتي، جلستْ حيث جلستُ . طاولة بدون غطاء، خشبها مغسول بماء المطر .. طلبنا شايا بالنعناع، سألتني عن الكتاب ، قلت لها مازحا: العبُود أسبق مِن المعْبُود.

وقفتْ متلهفة لرائحة الشّواء، ماذا تأكل ؟ كانت عيناي تأكل أردافها البارزتين من ثوب جلبابها الوردي الشفاف .. الكبد أم البفتيك، قالت؟

أجبتها ضاحكا: خياران لا يبغيان ثالث بينهما؟

عقبت ويدها تشير إلى ناحية بائع الشواء :كله لحم.. لحم .

رغم طاولتنا البئيسة، والتي لم يضع فوقها الأكل بعد، تسللت إلى تحتها بعض القطط، تتمسح بقدمي ، في رجاء لمدّها بِلُقيْمَات للأكل. عادت السيدة محملة بصحنين من اللحم المشوي والخبز، حينئذ قلت لنفسي، لكلّ صيدٍ طُعْمُه الذي يتصيّدهُ.

كنا منهمكين في نهش اللحم المشوي، دون حديث أو كلام، كل منا كان يحدث نفسه، برهة سألتني عن رأيي في

اللحم، أجبتها باقتضاب، كل ما يُسكِت نِداء المعدة، فهو جميل.

كان هرير القِطط يسمع بشكل لافت، انحنت السيدة لتطعمها، فجأة اصطبغ وجهها بالاحمرار ، كانت

القطط تُعبِر عن سعادتها بذروة الوِدَاق.

سمعنا المنادي يصيح في المسافرين: " أصحاب أسفي"

خففنا الوطء للالتحاق بالحافلة، طلبت مني أن نتبادل ( بالاماكن ، هكذا أصبح مقعدي رقم(8)

الرقم الذي شكلتْ هيئته شكل امرأة: عريض الصدر، نحيف،الخصر، واسع الحوض! كما أنه دلالة تدل على اليوم

العالمي للمرأة ،الذي هو ثامن يوم من مارس من كل السنة ..منحتني كوبا من الرّائب، شكرتها، نزعتُ سدادة الكوب، وتنبهت قبل أن أضعها في مكان النفايات، كان كتاب فن الحب حاصل في شبكة على ظهر مقعد أمامي، تداركت السيدة، وأخذت مني السدادة ووضعتها في شبكة المقعد الذي أمامها، هربتُ نظري ناحية النافذة من الخجل. كانت في الخارج السماء قد تلبدت بغيوم سوداء، والرياح الهوجاء تلاعب رذاذ المطريمينا وشمالا ، أتيتُ على محتوى الكوب، وبعد إفراغه تسلمته مني بخفة ووضعته داخل كيس كانت تحتفظ به. قالت لي:

الجوّ شاعري أليس كذلك ؟

وافقتها بإشارة من رأسي المثقل بالنوم.

كانت رؤوس المسافرين قد سقطت فوق صدورها، ربّما من جراء وعثاء السفر أو النوم . هدهدةُ الحافلة تستدرجني إلى النوم، حاولت أن أقاومه لكني أحس بجفني ثقيلة بالكاد أفتحها.

في المحطة كانت يد مساعد السائق تخضني خضا عنيفا كي استيقظ ، كنت راقدا وجهي مسنودا إلى النافذة. لم يكن في وسعي إلا أن أنظر في رفض شاحب مع كل ما حدث؟

صاح السائق من وراء الحشد المتحلق حولي:" كنت أظنها زوجته أو خطيبته"! (أقسم على ذلك)

    استيقظتُ فزعا، أتطلع إلى وجوه كالحة ، تحلق من حولي وتضحك ملء أفواهها.. تفقدت أغراضي التي جُرِدتُ منها:

الحقيبة، حافظة النقود، الهاتف،ساعة اليد .. ! ولم تظفر شبكة صيدي إلا بكتاب فن الحب لإريك فروم، وقصاصة كانت على وشك أن تسقط منه ، كنت دونت فيها : الجمال بداية الرعب.. كلّ ملاَك مُرعب.

مجلة فن السرد | محاكاة


التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث