"أعداد
القتلى تتزايد بشكل مهول، لم نعد نملك الخبر اليقين، أترككم مع الطيب وشان من قلب
الحدث"
تصرخ الأم من المطبخ: "هيا انهضوا، الأكل جاهز"
- رانيا،
أطفئي التلفاز.
- و لكن يا أبي، يبدو الخبر مهما، ألا ترى الشريط الأحمر في الأسفل؟
- الحروب في
كل مكان يا ابنتي، وهذا الشريط يلازم كل القنوات، صحيح أن نسبة الوفيات ترتفع، ولكن
الولادات أيضا تزداد، هكذا يتحقق التوازن.
قفزت رانيا في مكانها قفزة الوَلَّب، كانت كالنبات الناضح تملؤها الحياة، ويتضوع
منها الأمل، وقالت بدهشة الصغار: لم يمت أحد فينا، ورغم ذلك بطن أمي منتفخ بأخي، كيف
ذلك؟
تجنب إجابتها قائلا: هيا بنا يا نعمى عيني سيبرد الأكل.
الشوكة في يدها والطعام يبرد، وأفكارها تتلاطم فيما بينها. تركت صحنها ممتلئا ودلفت إلى غرفتها، حملت ورقة رسم وبدأت ترسم السماء والنجوم متسائلة: هل تموت النجوم أيضا؟ وغفت وهي تعانق سماءها.
استيقظت مذعورة على صوت عويل من الألم اخترق الجدار، تقدمت نحو مصدر الصوت. وجدت أمها ممددة على السرير، يعصرها الألم، اقتربت منها، وجهها شاحب، العرق يتصبب شلالا والينبوع لا ينضب. تهمس بكلمات لا تفهم، جسدها يتقلص وينبسط كالأوكرديون.
هلع الأب مسرعا يركض كالمجنون، شغل السيارة وقاد نحو أقرب مستشفى، انزوت رانيا في ركن تفكر في التوازن الذي تحدث عنه الأب قبل أن تنام، هل على أمي أن تموت لأحظى بأخ؟ لماذا لم تمت حين ولدت أنا؟
وصلا المستشفى على عجل، مرت الدقائق كالسنوات، والأب ينتظر الخبر السعيد، يتمتم بأدعية مختلفة تمتزج بصراخ زوجته وأصوات الأجهزة الطبية. بدأ الأطباء بإجراء الولادة القيصرية، كل ثانية تمر كانت مهمة، حاولوا تنبيه قلب الجنين الصغير، لكنه كان ضعيفا جدا، استخدموا جهاز التنفس الاصطناعي، وحقنوه بمنبهات كثيرة، لكن كل محاولاتهم باءت بالفشل.
قلب الجنين الصغير رفض الاستجابة. كانت أصوات الأجهزة الطبية تمزق هدوء الغرفة، ووجوه الأطباء المتجهمة تكشف عن مدى خطورة الوضع، يرمقون بعضهم البعض دلالة الحسرة و قلة الحيلة، خرج الطبيب ببطء، ربت على كتفه ثم أخبره بصوت خافت: "لقد بذلنا قصارى جهدنا، أردنا تجهيزه ليوضع في الحاضنة، الأم بخير ولكن مع الأسف، لم نستطع إنقاذ الجنين".
انهار الأب وسقط على ركبتيه، كان يشعر وكأن العالم ضاق به، تبكي زوجته بحرقة تدمي قلبه. عاد إلى المنزل، عانق ابنته وأخبرها أن الصغير صعد إلى مكان أفضل، " أين أمي؟" هو كل ما كانت تقوله رانيا..أخبرها أن المكلومة ستلتحق بهم في القريب العاجل.
أدرك الأب، بعد فقدان طفله المنتظر، أن الأرقام والإحصائيات لا تختزل حجم المأساة ولا تعبر عنها. كان يظن أن الإنسان مجرد رقم في السجلات، لكنه اكتشف أن كل شخص هو كيان متفرد يترك ذكراه إذا رحل، يخلف شرخا في نفس الأقارب والمعارف، تبكي عليه السماء والأرض أربعين صباحا.
كان
يقبع داخل الرحم، لم يره ولكنه أحس به، تخيله وفكر في اسم يناسبه، حمل معه أحلامه
و آماله. كانت عدسة الأخبار نافذة اعتاد على رؤية العالم من خلالها، نافذة تتلاشى
فيها الفواجع خلف الأرقام الجافة، لكنه الآن شعر بألم الفقدان الحقيقي. لم يفقد
رقما، بل فقد طفلا يحمل جزءا من روحه، بدأ الأب يغير من نظرته القديمة، أصبح مهتما
بالقضايا الإنسانية، يتقاسم الشعور مع كل المفجوعين ويعمل جاهدا كي يكون الغد أفضل
من الأمس، وحتى إن بقي الغد كالأمس، سيكون مرتاح البال لأنه فعل ما بوسعه.
- يا بنيتي،
ارفعي صوت التلفاز قليلا، ماذا قال المراسل ؟
قال يا أبي" لا تعتادوا المشهد، لا تألفوا الخبر، لا تملوا الحديث
عنهم."
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا