أدب السجون هو جنس أدبي يصف فيه الكاتب تجربته الشخصية أو تجربة شخص آخر حينما يكون مقيدا في مكان ضد إرادته، مثل السجن أو الإقامة الجبرية، ويمكن أن تكون الأدبيات حول السجن، أو عن مرحلة قبله، أو بعده، أو مكتوبة أثناء إقامة الكاتب في السجن، وإما أن يكون مذكرات أو قصصا أو محض خيال.
تعددت التجارب التي ركزت على نقطة
سلب الحرية، ومن الأمثلة التي نسوقها في هذا الصدد عمل جواد مديدش "الغرفة
المظلمة أو درب مولاي الشريف"([1])،
حيث تحدث في الفصل الثاني من عمله عن حكاية جهنمية، هي مدار الأشهر الثمانية التي
أمضاها صاحب العمل في درب مولاي الشريف (الغرفة السوداء) التي تم فيها الاستنطاق
والتعذيب، وقد برع صاحب العمل في تصوير "نفق" درب مولاي الشريف... حيث
العصابة التي لا تفارق العين والأصفاد التي لا تفارق اليد، وحيث "الحجّاج غير
الآدميين" الذين يحاصرون الذات التي لا تملك، في سياق الحفاظ على
"الكينونة السجنية"، المرحاض وأداء الصلاة واصطياد القمل([2]).
وفي الحق فقد نجح السارد في استخدام أسلوب السخرية التي لا يملك المعتقل أي سلاح
من غير سلاحها.
وتطرقت "نوال السعدواي" لقصص
السجينات من عنبر غير السياسيات لتروي تفاصيل الضغوط الاجتماعية في ذلك الوقت، والتي
أدت بهم إلى دخول السجن، لتصف الكاتبة أن السجن من قبل الإفراج كان قضبانا حديدية
ليتحول فيما بعد إلى قضبان من مادة غير مرئية، ومما يحسب لعمل هذه الكاتبة وصفها
العميق وبحركة سينمائية، كأنها كاميرا بحركة بطيئة في تصوير عملية ما قبل
الإيداع في الزنزانة. تقول السعداوي:
"إذا كانت أصعب لحظة في حياة المحكوم عليه بالإعدام هي اللحظة التي تسبق سقوط
المقصلة على عنقه، فإن أصعب لحظة في حياتي هي التي سبقت دخولي الزنزانة. عيناي
تتابعان حركة السلسلة في اليد السمراء المبقعة والأصابع المشققة، ومن حولها
المفاتيح الضخمة تهتز. المفتاح الواحد كالمطرقة الضخمة له رأس شاكوش وذراع حديدية
طويلة لها أسنان مشرشرة. الأبواب ذات القضبان الحديدية تنعكس ظلالها على الجدران
المرتفعة في الظلمة كالأشباح. حديد يدور في الحديد ويصطك. الصوت يرتطم بالأسوار،
ويرتد الصدى فوق الجدران، كأن مئات الأبواب الحديدية توصد، وتغلق، وصفير حاد
كالصمت، وأصوات تطن كالصفير، كريح من الدخان المكتوم ينفذ من ثقب ضيق... الظلمة تشتد وتصبح لها كثافة فوق جفني. الهواء يركد ويثقل وتصبح له رائحة
نفاذة تحرق غشاء الأنف كالغاز الخانق. توقفت المرأة عند أحد الأبواب الضخمة ذي
القضبان الحديدية. أدخلت المفتاح في الباب وظهرها ناحيتي... ثم رن صوتها...
ادخلي... عيناي مفتوحتان... ارتطم رأسي بحديد الباب... دار المفتاح في الباب ثلاث
دورات ودب الصمت في أذني كالصفير الحاد. كصرخة ممتدة بغير انقطاع. سددت أذني
بأصابعي والمنديل الأبيض وضعته على أنفي. في السقف لمبة كهربية تحملق كالعين
الجاحظة المشنوقة"([3]).
وتعتبر مسرحية "العصفور الأحدب" لمحمد الماغوط تجسيدا لأدب السجون على المسرح، حيث قام المؤلِف بتوظيف السخرية في الأدب من خلال التهكم في الميدان الاجتماعي والسياسي.
كتب الماغوط المسرحية عام 1960 من محبسه، وسبب
التسمية بالعصفور الأحدب يعود إلى انتشار الزنازين ذات الارتفاعات المنخفضة التي
تُشكل تقوسا في الظهر لدى السجناء، أما العصفور، فيرمز به إلى الإنسان الحر. يسلط
الكاتب الضوء على السلطة التي تلاحق المواطنين بشكل مستمر بسبب خوفها أن يقيموا
مؤامرات ضدهم، فنرى في المسرحية أن الشرطة تلقي القبض على المواطنين دون أن
يقترفوا أية جرائم تستحق السجن والتعذيب.
وفي سياق آخر، نجد السورية هبة الدباغ
تختم روايتها"خمس دقائق وحسب.. تسع سنوات في سجون سورية"بالآتي:
"وقتها ارتد بي البصر إلى دمشق عام 85 وعدت بالذاكرة إلى ليلة رأس السنة في
بيتنا بالبرامكة قبل تسع سنوات بالتحديد.. ليلة أن اصطفت سيارات المخابرات على طول
الشارع في منتصف الليل.. وسألني رئيسهم أن أذهب
معه خمس دقائق وحسب، فانتزعوني من الحياة تسع سنوات كاملات.. دون أن أعرف
سببا لذلك إلى اليوم!"([4])،
والرواية لا تُسلِّط الضوء على التعذيب داخل السجون بقدر ما تركز على السجين نفسه،
وحالته النفسية، وعلاقته بمن حوله.
ونلاحظ في عمل هبة الدباغ بعض التناص مع رواية سابقة للقيادي الإخواني المصري أحمد رائف، الذي يقول: "خمس دقائق ثم تعود... هذا ما قاله لي الرائد محمد عبد الغفار ترك عندما قبض علي من منزلي في الساعات الأولى من نهار 1965"([5])، ليستمر اعتقاله أشهرا وسنوات، ويتنقل بين أكثر من معتقل وسجن مصري (معتقل القلعة – معتقل أبي زعبل – السجن الحربي)، غير أن ما أورده أحمد رائف في البداية أوردته هبة الدباغ في نهاية روايتها، وهكذا، نلاحظ أنه في غياب الحرية والاختيار والمسؤولية والفعل الواعي يعدم الإنسان حيويته وملابساته وارتباطه بالعصر، وتوجيه الوعي فيه وجهة إنسانية غير مشروطة"([6]).
([2]) يحيى بن الوليد، رواية الاعتقال السياسي والنقد
الذاتي، ضفة ثالثة، 13 يونيو 2018، شوهد
في: 21/01/2025، في: https://diffah.alaraby.co.uk/diffah//amp//opinions/2018/6/11/%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B9%D8%AA%D9%82%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%82%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D8%A7%D8%AA%D9%8A
([3]) نوال السعداوي، مذكراتي في سجن النساء (رواية)، ط 1 (بيروت: دار الآداب للنشر والتوزيع، 2000)، ص 55 – 57.
([4]) Heba Dabbarh,
juste five minutes..nine years in the prison of Syria, translated by Bayan
khatib, (Canada: library and Archives, 2007), p. 225.
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا