موجات الضوء البعيدة تبدو كخربشات أظافر ضخمة في لوحة الظلام الكثيف، في خطوطٍ غير منتظمة، تقترب أكثر فتسمع صوتَ مولدِ الكهرباء، تكتكات متفرقة.. ستبدو أكثر إيقاعًا كلما اقتربت.
يَنسلُّ الناس لهذه النقطة مِن نقاط أخرى عديدة، تُقابلهم ثعالب الليل... تبرق عيونها كنجمات السماء الباردة. يطأون بأقدامهم أشياء مجهولة.. تتحطم تحت أرجلهم بصوت مسموع ولكنهم لا ينتبهون إليه.
صوت الضفادع والصراصير يصنع خيطًا من الأزيز المستمر، يمر بالرأس ويعبره للجانب الآخر، لو تقابلهم فرادى؛ تحسبهم قليلًا، ولكن هناك تحت اللمبات الملونة التي تضيء وتطفئ وتخطف الأبصار ستراهم كثيرين، يقفون ولكلٍّ منهم ظلال عديدة، بسبب لمبات كثيرة في شريط طويل، ملونة بألف لون، تتراقص على إيقاع الموسيقى، تعلو وتهبط، تفرح وتحزن وتدل القادمين على الأشجار القريبة يقف «أبو القردان» بلا أعشاش تؤويه، ولكنهم لا ينظرون إليه، بل ينظرون إلى النقطة المركزية؛ تلك الراقصة الصغيرة والجميلة، تأخذهم بزينتها الكثيفة.. قطع الحلي المستديرة اللامعة، الخيوط الطويلة المذهبة، قدماها الصغيرتان، الوشم.. تلك الكائنات الخرافية والأسطورية وتحت المائية.
كأنما تمشي على أطراف أصابعها، إلى الخيال تمشي، تدور وتدور، تصير ألف امرأة، ألف حلم. اللون الأحمر القاني على الشفاه يُسرع من تدفق الدم والنبضات.
ترقص وتنظر في أعين الرجال.. كأنما ترقص لكل واحد بذاته، يأخذهم الخيال بعيدًا، يتخيلها الواحد منهم له وحده لا شريك، مجردة تمامًا مِن كل شيء حتى ألوان الزينة. تكون معك كأنما تعرفك منذ قرون، أو كأنما خلقتما معًا منذ الأزل، مؤكد أنها تملك إرثًا عظيمًا في كيفية الإمتاع، تعرف كيف تجعل الرجال يذوبون تدريجيًّا حتى درجة السيولة الأولى.
اللصوص، الحزانى، بائع البطاطا، بائع الترمس، حتى الصيادون الذاهبون للبحر، يتوقفون قليلًا يحاولون أن يحتفظوا بهذا الجمال الأخّاذ في خلايا الدماغ، حتى إذا ما احتاجوه اجتروه في لحظة صيد وصفاء.
يخطو بين هؤلاء عم كامل (أبو محمد كامل عبد الغني)، لديه أولاد كثيرون وأحفاد، ربما لا يحفظهم كلهم ولكنهم يخشونه، يُغطي رأسه بطاقية مِن وبر الإبل؛ يقول إنها تُذهب الصداع والبرد. عمامته المربوطة بإحكام تُغطي ما بقي مِن شعر وأثر جرح قديم. أبدًا لم يُرَ حاسر الرأس. وجهه القاسي المليء بالتغضنات اللا منتهاة، ذو أسنان يتدرج لونها مِن الأسود حتى الأصفر، وشارب ضخم كان يومًا ما مصدرًا للفخر.
لَمْ يَنحنِ ظهره ولا توكّأَ أبدًا على عصا، ربما فعلها ظاهريًّا، ولكن النية كانت لأغراض أخرى كمعركة يشك أنها ستقع أو لذئاب الليل والكلاب.
يقولون إن عم كامل - يكفي أن تقول عم كامل حتى ترتسم في مخيلة مَن تحدثه صورته كاملة- قتل ذئبًا بيدين عاريتين! قابله وهو يروي أرضه ليلًا، وفي وسط رعبه ورغبته في الحياة أمسك الحيوان مِن فكيه ليشطره نِصفَين.
عم كامل الذي كان يخطو ببطء نحو المركز الغارق في النور، ويداه معقودتان خلف ظهره، يوسّع له الواقفون. اقترب مِن الدائرة التي لا ينطفئ نورها، حيث الراقصة وفرقتها في بحر مِن النور تتلألأ، وفي الأمر شيء مِن الأسطورة.
مع الاقتراب مِن هذه الدائرة يجب أن تجلس؛ كي تمنح الرؤية للآخرين، فالرؤية لا تُتاح كل يوم، اليوم تاريخي بلا شك. لكن عم كامل لم يجلس، فكّ عقدة يديه واستقبل السيجارة الضخمة الممدودة إليه، لم يتأكد مِن صاحب اليد، الظلام كثيف واللمبات ترقص وهو مُركز الفكر في مقدمة الدائرة. وفجأة خطى وسط النور أعقبت ذلك أصوات عالية من نواحٍ شتى.. مؤكد أنها كانت لشباب مُثارٍ في هذا الجو الصاخب والألوان الكثيرة والضوء المتقطع. ورقَص الرجل، رقص ليس كما لم يرقص من قبل؛ فهو لم يُرْوَ عنه في تاريخه المعلن على الأقل أنه رقص.. ربما عُرف عنه حكاية الذئب تلك، أو حكايات عن دخوله الجيش في سنة الهزيمة. الناس تضحك وفي ضحكهم خجل، كأنما كل واحد منهم مسئول عن هذا الخطأ الذي يحدث، ربما فكروا بطريقة لم تتضح لهم بأن يأتوه ببطانية ويلفوه كالمحروق، أبو محمد الذي يزيد إيقاع رقصه بدا كالمحروق فعلًا بتلك الأضواء، تبدو يداه وقدماه كعصي يلوّح بها في الهواء.
وفي المقابل يزيد إيقاع الراقصة التي تبتسم لذلك العجوز.. وتختطف طاقية الوبر، ولمع رأس عم كامل عاريًا، أُتيح لكثيرين أن يروا صلعته وهي تحترق تحت الضوء، والراقصة تمسح بالطاقية أماكن متفرقة مِن جسدها وتضحك، ربما أصابه الصداع، ربما أصابه شيء آخر، لكن رقصه زاد كَوَثَنِيٍّ في غابة.
العيون معلقة على العجوز المتصبب عرقًا.. العجوز الذي كان يصر على حفر هيئته الغريبة تلك في ذاكرة كل مَن مشى لهذا الفرح مِن القرية، والقرى البعيدة. فعل فعلة أخرى، حمل الراقصة مِن تحت إبطيها وجرى بها، لماذا؟ إلى أين؟
تلك أسئلة لم تجد لها إجابات شافية.. كل شيء بدا غريبًا تلك الليلة، أن يرقص، أن يحمل امرأة ويجري، كل شيء ملتبس.. كأنما أنت لست أنت، والآخرون ليسوا كذلك. اختلط كل شيء، عم كامل بالراقصة والبائع واللص والنور والموسيقى، والناس تجري وراء أبي محمد، تضربه.. تسبه.. تناديه.. تتهمه بالجنون، والرجل لا يستجيب. وتزيد الأقاويل في هذه المنطقة كثيرًا وتضيع الحقيقة.
يقولون إنه كان سيقبِّلها فقط، فهو منذ سنوات طوال لم يُقبِّل امرأة. يقولون إن الخفر الموقعين على حفظ النظام هذه الليلة كسروا نَبُّوتَينِ على ظهره حتى يخلصوها منه.
وسيُضيف الناس تفاصيل، ويحذفون أخرى، ولكنْ أبو محمد كامل عبد الغني رقص، كما لم يرقص من قبل.
مجلة فن السرد | محاكاة
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا