أفيون اللاإنسانية: صناعة الإنسان الوحش!

الكاتب: شيماء ايت مخلوفتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

 

مجلة فن السرد



في عالم التعذيب و التقتيل، و العنف و التمزيق، غدا الخط الفاصل بين الإنساني و اللاإنساني أرق من الشعرة، حين تجرد الإنسان من إنسانيته ، و أخرج الوحش الكامن في أغواره رغم محاولات عدة لمواراته أو على الأقل لإسكاته، ما جعله يتخذ تارة شكل عنف مادي و تارة أخرى شكل عنف معنوي ، أو قد يتمظهر هذا البعد اللاإنساني في تحويل العنف أو أي سلوك غير مقبول إنسانيا، قبل كل شيء، لأمر مستساغ على مرأى منا: في شاشاتنا، و جرائدنا، وواقعنا،  لاسيما و أننا قد طبعنا مع كل أشكال الإذلال التي تمسنا أو تمس غيرنا :" تصور حجم ما مات فينا حتى تعودنا على كل ما يجري حولنا" ممدوح عدوان.

تجليات اللاإنسانية

تسويغ العنف في المجازر

حين يمارس فعل العنف على إنسان من طرف إنسان اخر من ابن جلدته، فإن الألم الذي يتلقاه يحوله إلى أنقاض إنسان متفتت كزجاج مكسور لا يعود إلى حالته الطبيعية حتى بعض إصلاحه، أما إن تحدثنا عن مجزرة جماعية لا يتقبلها عقل المستمع، فما بالك بالمشاهد أو حتى بمن يقع عليه فعل الفاعل. و لعل هذه التجربة بالنسبة لمنفذها لا تعدو أن تكون إلا مهمة متكاملة مع مهمات أخرى، فمنفذ المجزرة يجد نفسه حلقة ضمن سلسلة من الحلقات المتتالية المتكاملة، و التي تتركز على توزيع المهام و المسؤوليات، على أن يتوفر عنصر الأنانية و التغاضي عما سيفعله الآخرون تقتيلا لأطفال أو تعذيبا لنساء أو شنقا لشباب، لا يهمه الأمر و بذلك يسكت صوت النفس و تعفى من المسؤولية.

إن السلطة التي ينفذ من أجلها هذه الخدمة تعمل على غسيل دماغي قائم على إيقاظ غريزة العنف وإخراج الوحش الكامن في الداخل، هذه العملية السيكولوجية تصل لتجريد منفذ هذا التعذيب من إنسانيته، وتجعل فعله مستساغا في إعداداته العقلية، وقد يتعدى ذلك لاعتبار فعله غاية نبيلة أو مهمة خاصة، وبالتالي تترسخ في نفسه قناعة صحة ما يقوم به على اعتبارها "خدمة" للسلطة العليا. علاوة على ذلك، يشير مؤلف "حيونة الإنسان" إلى عنصر آخر يجعل هذا العنف مستساغا لاسيما في المجازر، و هو اعتبار الجلاد الضحية إنسانا آخر أدنى منه، أو إنسانا غير سوي لتنفيذ هذا التعذيب، كما يؤكد ذلك دافيد كوبر في "ديالكتيك التحرر":" و غير الإنساني يصبح غير إنسان... و بهذا يمكن تدميره تدميرا تاما من دون أي احتمال لشعور بالذنب". بالإضافة إلى ذلك، لا بد من وجود وسط سياسي ومعنوي لا يكترث لعملية الإبادة أو المجزرة وتكون ردة فعله التفرج. ولعل واقعنا خير دليل على استمرار المجازر الدموية في قطاع غزة وجرائم الكيان الغاصب ضد الإنسانية بلا رقيب وعلى مرأى العالم برمته!.

 تجربة السجن وتقييد الحرية

الموت الداخلي للإنسان

هي إحدى أعتى التجارب التي تنخر الإنسان من الداخل حد الموت، إذ يتحول الإنسان بعد دخوله لزنزانة موصدة الأبواب إلى شيء آخر غير الإنسان، ويتجلى عمق هذا العنف الرمزي في جعل السجين ذليلا خانعا ينزل من مرتبة الانسان إلى ما هو أدنى، ويقطع صلته بالعالم الخارجي، فيتحول معها من حالة المدنية التي عهدها قبل تجربة السجن إلى عودة لحالة الطبيعة المفرغة من كل الأبعاد الاجتماعية المدنية، حيث تغدو الغرائز حاكمة ولا يتجاوز السجين سقف الحاجيات البيولوجية. علاوة على ذلك، يمكن لهذا القمع و القهر أن ينتج شبيهه لدى المقموع عبر سلوكيات تمردية أو عنيفة تخرج الوحش الذي بداخل الانسان، أو تحثه ليبادر بالهجوم على الغير في إطار ما سمي ب"حرب الكل ضد الكل " أو تمثيلا أيضا لقولة" الانسان ذئب لأخيه الانسان" حيث يصبح البقاء للأقوى. فرغم وجود قوانين سجنية رادعة، فإن داخل السجين يستعر عنفا و عدوانا متولدين عن كبت داخلي، و بهذا تتحكم الغرائز في السجين أكثر من القيم   و المشاعر الاجتماعية. ومع أصوات التعذيب والترهيب التي تلتطم باللحم الادمي، تنسل شيئا فشيئا الكرامة و الإرادة الإنسانية كانسلال خيوط الثوب، و تخضع لمزاج الضابط حينا و حرس الجناح حينا آخر، و هو لا يملك لها رادعا أو سلطانا، إذ يعتبر مجرد رقم قد يمحى في أي وقت بجرة قلم.

في تحليله لعلاقة المضطهد بالمضطهد، يعرج ممدوح عدوان في كتابه على ذلك قائلا:" يريد المضطهِد أن يقمع شيئاً محدداً في المضطَهَد هو جوهر حياته، أو أحد أهم المستلزمات لحياته، لأنه يريده نصف حي. النصف الآخر "الزائد" هو الإرادة أو الحرية والكرامة، وهذه فوائض لا يريدها المضطَهِد. وهذا النصف إن لم يَمُتْ فإن الاضطهاد والاستغلال لا يمكن أن يستمرا."، هكذا يمتص المضطهد الوحشية بجميع المسام في تعامله مع ضحيته. ولعل الماضي الاستعماري لعدد من الشعوب خير شاهد على غريزة العنف هاته التي تعدت مقاييس ما يمكن للعقل البشري استيعابه، وكرست لسمو وعلية المستعمر على المستعمر التي يتعامل معه على أنه الاخر الأدنى منه.

سواء أكان جلادا أو قامعا أو مضطهدا، تبقى كل هذه الأشكال ممثلة للسلوك اللاإنساني للإنسان وإيقاظ الوحش المستنيم داخله، وصناعة لأفيون التطبيع مع كل أشكال الإذلال والاحتقار الغيرية، 

أفيون طالما تتعطاه الشعوب حد التخدير...

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث