انزوت "البتول" في ركن الغرفة؛ تندب حظها، وتطلب من الله العوض على صبرها، شقت وربّت ثلاثة إخوة، ولما كبروا، أحدهم هاجر إلى إيطاليا، والاثنان الآخران حين تزوجا، سَهِرت "البتول" على رعاية أبنائهما فيما بعد، تربّوا جميعهم في حُضن "العمّة" وانفضوا إلى حال سبيلهم، ناكرين جميلها، جاحدين معروفها. والأنكى والأَمَرّ معاناتها المُسبقة من جُحود إخوتها، فَبِالأحْرى أبنائهم !!
هاهي تجلس اليوم تعيسة، معزولة بلا رفيق يَسْنِدُ ظهرها، ويُؤنس وحدتها. باتت تعيش مُقصاة من سوق الارتباط، يَحِزّ في قلبها مُناداتها -على سبيل التّهكّم- ب "عذراء الأسرة" لأنها تَخطّت عقدها الرابع ولم تتزوج، ويؤلمها أكثر تسميتها ب "العانس" رغم أن قرار عدم الزواج لم يكن بإرادتها، الكثير من الخُطاب يتقدمون لخطبتها دون رجعة. وهذا ما زاد من شعورها بالكآبة، ترى الحزن في عينيها حتى ولو كانت تتصنع البسمة أحيانا...تَعاقُب السنين ترك بصمته على تقاسيم وجهها، هزل جسمها، وذبل جمالها، بعد أن كانت تُعدّ واحدة من أجمل فتيات الحي في زمانها. تزوجت رفيقاتها، ولم يحالفها الحظ للظفر بعريس أحلامها، ضدا على استهزاء أشباه الرجال وقهر النسوان ممن يجرحونها بكثرة السؤال عن السر في عدم زواجها، فضلا عن معاملتهم لها بدونية في مناسبات عدة، لا لشيء إلا لكونها "فاتها قطار الزواج" كما يدعون، جارحين مشاعرها، مسببين لها آلاما وأوجاعا. ما جعلها تنطوي على نفسها ناشدة الأمان من لسع ألسنة الناس، مطلقة صرختها المدوية: "كفى انتقاصا من كرامتي، فالعنوسة ليست دائما امرأة .. والزواج لايصنع الحياة؛ لأن حياتي موجودة مسبقا أصلا".
لاتزال تذكر"البتول" بأسى عميق تهافت إخوتها، وهرولتهم لبيع الرياض "الدار الكبيرة" بالمدينة العتيقة، التي كانت تقطن بها هي وأمها. فبمجرد أن أسلمت والدتها الروح إلى بارئها، اضطرت للرحيل إذعانا لقرار إخوتها وجشعهم، وراحت تجمع أمتعتها لتستقر في شقة صغيرة، اشتروها لها من نصيبها في الميراث بالرياض؛ هذا المنزل القديم الذي سال لعاب أحد الأجانب عليه؛ فدفع ملايين "الأورو" من أجل اقتنائه؛ باعتباره تراثا لاماديا، عمد إلى تغيير معالمه، و تحويله إلى دار للضيافة شأن معظم المساكن المجاورة له بالمدينة العتيقة، والتي أصبحت تجذب السياح من مختلف أقطار العالم.
كفكفت دموعها، ثم ودّعت ذكرياتها في كَنَفِ البيت الذي ترعرعت فيه. صَعُبَ عليها هَجْرُ جيرانها، والتّأقلم في الشقة الجديدة بالحي العصري، الذي لم تشعر في رحابه بالأُلفة والتعايش الحميمي، اللذان كانت تُحِسّ بهما في مسقط رأسها بالمدينة العتيقة. ومع ذلك رضيت بقدرها، وعاشت تلتحف لوعة الوحدة، ومضاضة الصّبر.
ذات يوم، عاد أصغر إخوانها "إدريس" من بلاد الغربة مهيض الجناح، بسبب تجربة زواج فاشلة من امرأة إيطالية، اختلف معها في تربية ولديهما، تشنّجت علاقتهما، فتمّ نَزْع ُالولدين منهما، وإيداعهما في مؤسّسة للرعاية. وَزُجّ ب "إدريس" في السّجن مُتّهَمًا بتعنيف زوجته.
وفَوْرَ إطلاق سراحه؛ رجع إلى موطنه مكسور الخاطر، متوجها صوب منزل أخته "البتول". أخيرا تذكر أن له أختا بمثابة أمّ ثانية؛ تحمل في قلبها حبّا بلا مقابل. بِطيبَة قلبها، وعقلها الرّزين، وشخصيتها النّاضجة، ورِقّة لفظها، قادرةٌ على تهوين أصعب أوقاته. وهذا ماحصل بالفعل.. ما إِنْ فتحتِ الباب، واكتحل ناظِرها بمُحيّاه حتّى ارتمى بين أحضانها، طالباً منها السماح، مُذرفا الدموع، مُلتمسا منها الإعتذار.
أَمْسَكَتْ بِكتفيْه وركّزت نَظَرَها في عيْنيه، وهو يَشيحُ بوجْهه استحياء، قائلة:"مرحبا أخي العزيز.. أنت مُهْجة الرّوح، قِطْعة مِنْ أبي وأمي..أنتَ النّور الذي يِسطع في سكّة الظلام".
أجاب مُرتبكا:"عُذرا أختي الحبيبة، لو كان للحبّ اسم آخر، لكان اسمُكِ. ولو كان للوفاء عُنوان، لكان صَوْتك. لِقاؤكِ بَلْسَم، وصِلَتُكِ مَغْنَمٌ، فَلْيُبْقِكِ اللهُ يداً تَنْبُعُ بالسّكينة، وضَوْءاً يوقِظُني للحياة".
مجلة فن السرد | مشاتل
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا