استعارات الرعب النفسي ومتاهات الذات المهمشة في رواية سماء تمطر خوفا | نزار لعرج

الكاتب: نزار لعرجتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

 

مجلة فن السرد


في رواية "سماء تمطر خوفا"، لا ينهمر المطر كحالة طبيعية، بل كإيقاع داخلي تتردد أصداؤه في نفس القارئ قبل أن تنعكس على الشخصيات. غسان خالد لا يقدّم لنا مجرد حبكة تعتمد على الرعب التقليدي، بل يصنع متاهة شعورية يتسلل فيها الخوف من الهامش إلى المركز، ليصبح الخيط الأساسي الذي يحيك به الكاتب عالمه السردي الذي تتلاشى فيه حدود الحقيقة والتخييل، ولا يمكن أن نفرق بينهما. الرواية ليست مجرد سردية عن الخوف، بل عن الوعي به، عن استبطانه حتى يتحول إلى جزء من تكوين الذات.

البنية السردية: تلاعب بالزمن وانشطار في الواقع

منذ الصفحات الأولى، يتضح أن الزمن في الرواية ليس خطيا، بل يعمل وفق منطق التداخل ، حيث تتكرّر الأحداث بزوايا مختلفة، وكأن كل مشهد هو إعادة صياغة لمشهد سابق لكن بمرآة مشروخة، كأن الزمن يعيد تدوير نفسه، لكن في كل مرة تنقص منه قطعة، تاركا فراغات تتسع في وعي القارئ أكثر مما تتسع على الورق. فتتكون لدينا متوالية متناقصة.
هذه الاستراتيجية تمنح الرواية طابعا سينمائيا مشهديا، حيث يتنقل القارئ بين لقطات خاطفة، ومشاهد مشوشة، تقترب من أسلوب الاسترجاع "الفلاش باك" المضطرب الذي يجعل الإدراك ذاته محل شك. وأكد الروائي هذا، حيت اعتمد مفارقات درامية كما في: "ظهر القمر من خلف الجبل، كنت أراه بالضبط يلامس بيت جدي. سأضعه في حقيبتي. ونسيت ذلك حين كنت أجلس في حضن جدتي." وتظهر المفارقة أيضا في الألعاب اللغوية التي اعتمدها الكاتب كما في: "في الحقيقة لا يجيب أو أنني لم أسأله قط ". إنها ليست رواية تحكي قصة بقدر ما هي رواية تضع القارئ داخل عقل مضطرب، عقل أنهكته الحروب والظروف القاسية حيث لا يمكن التمييز بين الذكرى والحاضر، بين الحلم واليقظة، بين الواقع والوهم. وعلى لسان شاجع يضع الروائي فكرته عن الحروب والتي تتماشى مع رؤية الجن.

اللغة: شعرية التكثيف والانزياح
يمتلك الكاتب قدرة على شحن اللغة بحمولة نفسية مكثفة، مستعينا بجمل قصيرة لكنها مشبعة بتوتر داخلي، اللغة عند غسان خالد نبضات متسارعة لشخص يترقب خطرا غير مرئي. لا يوجد إسهاب في الوصف، بل هناك تقطير للمشاهد، حيث تبدو الجمل وكأنها ومضات خاطفة للوعي، مشاهد سريعة لكنها محمّلة بإحساس ثقيل بالخطر.
اللغة هنا ليست مجرد أداة للوصف، بل تصبح هي ذاتها بيئة الرعب. فالكلمات تُستخدم بانتقائية تُحاكي القلق، تُحدث فجوات في السرد، وتجعل من المساحات البيضاء في النص أو مواقع اللاتحديد في جمالية التلقي جزءا من التجربة الشعورية، كأن الصمت بين الجمل يحمل من التهديد أكثر مما تحمله الجمل نفسها.
الشخصيات: لعبة الاختفاء والتجلي
الشخصيات في الرواية ليست كيانات متكاملة بقدر ما هي سيماءات ناقصة ومشوهة، كأنها انعكاسات على سطح مياه مضطربة. البطل، الذي يبدو في البداية ضحية للظروف، يتحول تدريجيا إلى كائن متورط في صناعة مخاوفه. لكنه ليس حالة فردية، بل صورة مصغّرة لواقع مأزوم، حيث لا يكون الخوف مجرد استجابة واعية لحوادث خارجية، بل حالة متأصلة داخل الشخصية ذاتها.
لا توجد شخصية تحتفظ بحدودها الواضحة، فالراوي يتلاعب بالمظاهر، يجعلك تتساءل إن كانت هذه الشخصيات حقيقية أم أنها مجرد انعكاسات داخل ذهن البطل، يحملها أفكاره ورؤيته الخاصة. هذه الضبابية تعزز من شعور القلق، فحتى حين تعتقد أنك فهمت إحدى الشخصيات، يظهر عنصر جديد يعيد تشكيلها، كأنها تتغير في كل قراءة، كأن هويتها ليست ثابتة بل متحولة، تماما كطبيعة الخوف نفسه.
هندسة الرعب النفسي : الخوف من الداخل قبل الخارج
لا تعتمد الرواية على عناصر الرعب التقليدية، فلا وحوش تتربص في العتمة، ولا أشباح تظهر فجأة، بل يتم بناء التوتر من الداخل إلى الخارج. إنه رعب ينمو تدريجيا، يتراكم دون أن يقدم نفسه بوضوح. القارئ يشعر أن هناك خطرا وشيكا، لكنه لا يعرف تحديدًا من أين سيأتي، أو إن كان سيأتي أصلا، فيبقى في حالة ترقب وتأهب.
وتكمن قوة الرواية في جعل الخوف شعورا داخليا أكثر منه تهديدا خارجيا، وفي جعل القارئ يختبر التوتر ذاته الذي تعانيه الشخصيات التي تعاني من أزمات نفسية بسبب قسوة الحياة والحروب، وكأن النص لم يعد مجرد تجربة قراءة، بل تحول إلى مرآة نفسية تعكس أعمق المخاوف التي قد لا يكون القارئ واعيا بوجودها داخله.

وارتبط الشعور بالخوف بانهمار المطر كما في أماكن عديدة في النص أذكر منها على سبيل المثال: تماسكت رغم خوفي..، لم أشعر بهطول الأمطار.

النهاية : قراءة لا تنتهي عند الصفحة الأخيرة
ما يجعل "سماء تمطر خوفا" تجربة سردية فريدة هو أنها لا تنتهي بإغلاق الكتاب. بل تظل عالقة، تترك ندوبها في الذاكرة، تجعل القارئ يعود إلى تفاصيلها بعد انتهاء القراءة. إنها ليست قصة تُروى، بل تجربة تُعاش، فشخصيات الرواية عاشت تحولات كثيرة، وتأرجحت بين كونها ضحية هشاشتها الذاتية، وبين كونها فريسة يقتات عليها الآخر المستبد. وهذا التداخل السردي أداة للكشف عن عمق الاضطراب النفسي. هذه الرواية تُشعر القارئ بأهوال الحياة وتخبره أن الخوف ليس لحظة مؤقتة، بل هو حالة ممتدة، تماما كمطر لا يتوقف عن الهطول، حتى بعد أن تغلق السماء أبوابها.

مجلة فن السرد  | قراءات ودراسات 

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث