![]() |
المبدع سمير لوبه- مصر |
لطالما كنت لصا، لكنني لم أكن يوما لصا عاديا، لم أسرق المال، ولم أقتحم المنازل، ولم أمد يدي إلى جيب أحد؛ كنت أسرق الغسيل، نعم الغسيل، بكل ما تحمله الكلمة من غرابة. كنت أنتظر حلول الليل، وأجوب الشوارع، متسللا تحت أضواء المصابيح الخافتة، باحثا عن حبال الغسيل الممتلئة بالثياب التي ترفرف؛ أفتح ذراعي، وبحضن حميمي أضمها إلى صدري وأمضي في هدوء .
لم أختر هذا الطريق بل اختارني هو، يوم هربت من أمي صغيرا، فغبت في دروب الأيام والسنين حتى بهتت صورة أمي وبيتنا في ذاكرتي؛ في الشوارع بلا أهل ولا مأوى أتجرع مرار التشرد.
في أحد الأيام، بعد أن خرجت من السجن بتهمة سرقة غسيل، وجدت نفسي جائعا معدما تجتاحني رياح الوحدة الباردة؛ تجولت في الأزقة بحثا عن أي شيء يسد رمقي، إلى أن وقعت عيناي على قميص أحمر تداعبه الريح فيتمايل في دلال تحت ضوء القمر، لم يكن هدفي السرقة في البداية، لكنني تخيلته على جسد مرمري بض؛ فاخترقت فتحات أنفي رائحة أنوثة لم أشتمها أبدا ؛ فمددت يدي إليه أقتنصه كمن يمد يده إلى حلم، حملته معي كمن يحمل كنزا، وأخذت أتشممه، لم يكن مجرد قميص مغرٍ، بل دفء أفتقده، لمسة أنثوية لم أعشها حتى وقتي هذا .
استهوتني الحكاية ومع مرور الأيام، تحولت من سارق غسيل عابر إلى محترف، لا أسرق عشوائيا، بل أنتقي بدقة قمصان النوم الزاهية التي تحمل رائحة النظافة الطازجة، لم أكن أبيع كل ما أسرقه، لكن أحتفظ لنفسي بقطعة تقدم لي في ليالي الوحدة الدفء واللمسة الحانية، أعلقه أمامي على جدران غرفتي الرطبة أتأمله؛ فيحكي لي كل قميص حكاية امرأة تعتني بمظهرها جيدا على الفراش الوثير؛ فأغيب في سبات عميق.
في إحدى الليالي، وبينما كنت أتسلل إلى سطح أحد البيوت، لاحظت أن الملابس تفوح منها رائحة مختلفة، رائحة مألوفة يعرفها أنفي، لكن كان ذلك منذ زمن بعيد، لم أستطع تمييزها على الفور، ولما اقتربتُ أكثر؛ تجمدت مكاني، كيف يمكن أن يكون هذا ممكنا؟ نظرت حولي؛ فتعرفت على الباب الخشبي العتيق، وأصص الصبار المبعثرة على أرضية السطوح، هذا البيت ليس غريبا عني، نعم، إنه بيت أمي.
تسري في جسدي قشعريرة، دموع تريد أن تفر من عينيَّي لتؤكد لي أن ما يطوف بخلدي صحيح، أكيد هو بيت أمي، بعد كل هذه السنين وجدت نفسي أمام بيت المرأة التي أنجبتني، أمام الحجرة التي عشت فيها طفلا ، قبل أن أتمرد وأهرب إلى الشوارع وأصبح لصا، وقفت في مكاني محاصرا بماضٍ كنت أظنه قد مات، فقط بقيت واقفا، ثم سمعت صوت الباب يفتح.
تخرج امرأة نحيلة، ظهرها منحنٍ قليلا، عيناها دافئتان، متعبتان، مليئتان بالحزن كما أتذكرهما ؛ نظرت إلي مباشرة وهي صامتة، ثم همست بصوت بالكاد سمعته :
- تعال يا يحيى ادخل، حضرت لك العشاء.
لم أسأل كيف عرفتني، ولم أسأل لماذا انتظرتني كل هذه السنين، فقط تبعتها إلى الداخل، تاركا خلفي حياة كنت أظنها قدري.
مجلة فن السرد | محاكاة
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا