السرد العربي بين الشفاهية والتدوين: جدلية التحول الثقافي والديني وأثرها في تشكيل الهوية الأدبية | نزار لعرج

الكاتب: نزار لعرجتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق


مجلة فن السرد

    عرف عن العرب شفاهيتهم، وفي زمن التدوين طالت المرويات السردية الجاهلية التي وصلت التغيير بناء على ما يقتضيه الوجود في الفضاء القرآني، لأنها كانت "الحامل الأكثر أهمية لعقائد الجاهليين الدينية"[1]، أما ما لم يصل فكان غزيرا وفعل فيه صرف الدهر فعلته، حفظ الشعر، وتناثرت المرويات النثرية، ضاعت في ذلك الفضاء الشفوي الواسع، فلم يتعهد أمرها أحد، ولم يعرف العموم رواة النثر الكبار كما عرفوا رواة الشعر، والحق فقد استبعد معظم تلك المرويات عن مجال التداول العام لأنها حوامل لعقائد الجاهليين الوثنية[2]. أ كان ذلك الكلام الإيقاعي الموزون الذي يؤرخ لتاريخ العرب، بطولاتهم وأحاسيسهم غرضه التخليد وقابلية مجاراة الزمن؟ فهو أسهل حفظا وأكثر تداولا من النثر، هذا الشعر الذي هو سجع أكثر تعقيدا وهذا السجع الذي هو الأكثر قربا من الرجز، كان بروكلمان قد أكد أن أقدم القوالب الفنية العربية هو السجع، أي النثر المقفى المجرد من الوزن، وأضاف أن تلك القوالب ترقت إلى الرجز، ومن هذا الأخير نشأت بحور الشعر العربي. وفي إشارة واضحة منه إلى اقتران السجع بالنثر الديني[3]. وفي حين كان السجع، وهو النثر المقفى المجرد من الوزن، يمثل أقدم القوالب الفنية العربية وفقا لما أشار إليه بروكلمان، فإن الإسلام أحدث تحولا عميقا في استخدام النثر ومضامينه. فلقد انتقلت اللغة من كونها وسيلة لرواية البطولات والأساطير الجاهلية إلى أداة لنقل الرسائل الدينية، وتنظيم 
الشؤون السياسية والإدارية، ونشر القيم الأخلاقية والاجتماعية. وهكذا، لعب الإسلام دورا كبيرا في إعادة تشكيل أساليب السرد، متيحا للنثر أن يزدهر في مجالات جديدة، و "امْتازَ النَّثْرُ في هذا العَصْرِ ببُعْدِه عنِ الإغْرابِ، وعَدَمِ اسْتِعمالِ السَّجْعِ إلَّا في القَليلِ النَّادِرِ"[4]، وظهرت أنماط جديدة مثل الرسائل الأدبية، والوصايا، والسير التي مثلت قيما إسلامية وعكست تحولا واضحا في الغرض والأسلوب مقارنة بالعصر الجاهلي. وأتى القصص القرآني كنموذج متكامل يجمع بين الإرشاد الروحي والجمال الأدبي. 
فبينما تهدف هذه القصص إلى تحقيق غايات دينية، مثل التوجيه والتهذيب والتربية الروحية، فإنها في الوقت ذاته تحمل عناصر فنية وأدبية تعكس الإبداع البلاغي والسردي، ويضم النص القرآني أساليب سردية متعددة، مثل السرد الموجز والتكرار الهادف والحوار المباشر، ويظهر عنصر المفاجأة كوسيلة بارعة لإيصال الرسائل بشكل يلفت الانتباه ويثير التأمل، كما هو الحال في قصة يوسف عليه السلام التي تمتلئ بالتقلبات والمفاجآت، لتعكس الحكمة الإلهية في التدبير. 

لذا لا يمكن حصر القصص القرآني في إطار الغرض الديني وحده؛ فهو يحمل في طياته أبعادا جمالية وفكرية تتفاعل
 مع العقل والوجدان على حد سواء. وفي هذا النموذج الفريد يتداخل الإرشاد بالإمتاع، ليقدم تجربة متكاملة تُبرز عمق المعاني الإلهية وثراء النص القرآني الكريم، فالقرآن "يجعل الجمال الفني أداة مقصودة للتأثير الوجداني، فيخاطب حاسة الوجدان الدينية، بلغة الجمال الفنية."[5]
 بعد عصر صدر الإسلام، الذي امتد من ظهور الإسلام حتى نهاية الخلافة الراشدة، تطور النثر العربي بشكل ملحوظ خلال العصور التالية، متأثرا بالتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية.
 هذه المراحل شملت العصر الأموي، ثم العباسي، وصولا إلى عصور الضعف والانحطاط، مع ملامح مختلفة لكل فترة، ففي العصر الأموي "تلون النثر في هذا العهد بجميع ألوان الحياة الجديدة فكان: خطابة وكتابة ورسائلا وعهودا وقصصا ومناظرات وتوقيعات. وامتاز النثر في هذا العهد بالإيجاز علی سنة الطبيعة العربية الأصيلة"[6]، فتنوعت الأشكال الأدبية لتلبي الاحتياجات السياسية والثقافية للمجتمع الأموي ولعبت السياسة والصراعات المذهبية دورا كبيرا في تشكيل النثر، أثرت المكتبة العربية وعرف العرب "فكرة الكتاب وأنه صحف يجمع بعضها إلى بعض في موضوع من الموضوعات، وقد ألفوا فعلا كتبا كثيرة"[7]، ورغم كل هذه التغييرات احتفظ الأدب بشكل عام بالكثير من المرتكزات التي ورثها من العصر الجاهلي، مع تركيز على الموضوعات السياسية وما له علاقة بالحروب والتوسعات الجغرافية، وعرف كذلك بالنقائض وتطورت الرسائل النثرية باعتبارها أداة للتواصل بين الحكام. 
وفي هذا العصر، لم تغب القصة عن المشهد الأدبي والاجتماعي، بل كانت جزءا أساسيا من الثقافة السائدة. وقد تفرعت القصص إلى ثلاثة أنواع رئيسية، حيث كانت القصص الدينية تهدف إلى تحفيز المقاتلين وبث روح الحماس في نفوسهم، مستفيدة من الأبعاد الدينية لتعزيز العزيمة والتضحية في المعارك. أما النوع الثاني، فكان يتعلق بالقصص السياسية التي تتنكر في ثوب الدين أو الحب أو غيرها من المواضيع التي تجد قبولا بين الناس، بهدف التأثير على الرأي العام أو خدمة أغراض السلطة الحاكمة.
 وأخيرا، كانت هناك قصص الحب، التي تُحكى لأغراض وجدانية، تعكس مشاعر العاطفة المرهفة والحياة الاجتماعية في ذلك العصر، تناولت قصص النوع الأول موضوعات دينية ودارت أحداثها في المساجد والمجالس العلمية وركز النوع الثاني من القصص على الحياة في قصور الحكام وتفاصيل حياتهم. ومن القصص التي اشتهرت في العصر الأموي قصة غرام عاتكة بنت معاوية
 بأبي دهبل الشاعر الذي فتن بجمالها وكان "يكاتب عاتكة"[8] ، ينشد فيها الأشعار، "وجمرات الوجد تتأجج بفؤاده قاذفة بالشرر"[9]، فانتقلت حكايتهما عبر الزمان والمكان متشكلة عبر ألسنة الرواة. وبالتالي "استطاعت القصة في العصر الأموي أن تخلق معادلا رمزيا للفكرة في بناء فني، يرتكز بصورة أساسية على حدث وشخصيات، وقد تنامى الحدث في قصص الحب، وتعددت الرؤى،
 وتباينت المواقف، وكل حدث يوحي إلى بعد رمزي لا إلى واقع حقيقي"[10].
في العصر العباسي، بدأت الفلسفة في التأثير على الأدب بفعل التلاقح الثقافي و الترجمة، وأصبح الأدب العباسي أكثر انفتاحا وتنوعا في الموضوعات، فهذا العصر نقطة تحول في تاريخ الثقافة الإسلامية والعربية، فيه مزجت الأصالة بالانفتاح، و"تنوعت الكتابة، وتعددت أساليبها، واختلفت خصائصها، وانقسمت إلى جذمين عظيمين هما كتابة الإنشاء وكتابة التأليف"[11]، وجاء الأدب متنوعا، 
فكان رسائلا بديعة، وحكايات ساحرة، ومقامات بارعة، فضلا عن الكتابات العلمية والفلسفية التي أرست دعائم المنهج العقلي والتحليل المنطقي مستفيدة من نتاج الأمم الأخرى الذي ترجم في بيت الحكمة. برزت المقامة ك"حيلة يطرفنا بها بديع الزمان وغيره لنطلع من جهة على حادثة معينة ومن جهة ثانية على أساليب أنيقة ممتازة."[12] وكانت شكلا قصصيا غايته تعليمية وتكون قالبها من "بطل وراوية، وقد أودعها مؤلفها فكرة أدبية أو فلسفية أو خطرة وجدانية أو لمحة من لمحات الدعابة أو المجون، بهدف تنشيط القارئ، وجذبه إلى التأمل في ما يقصده.[13]في حين أن المقامة تركز على البناء الفني المتقن والبلاغة من خلال حكايات فردية، تأتي ألف ليلة و ليلة لتقدم نموذجا متشعبا يضم عوالم سردية متشابكة وتقنيات سردية ثرية ومتنوعة. فالسرد العباسي كان انعكاسا للحراك الثقافي والفكري الذي شهده ذلك العصر.
 أما السرد العربي في العصر الحديث فقد شهد تطورا كبيرا لمواكبة العالم الجديد وبات يعكس عالما متشظيا فيه قضايا معقدة كالاغتراب والهويات المتعددة والصراعات المجتمعية والحداثة...، دون أن ننسى أنه أصبح منفتحا على تجارب التكنولوجيا والتطور الصناعي، ويتسم السرد الحديث بالتجريب، العبور الأجناسي، التعالق النصي وكسر القوالب التقليدية. ويمكننا القول إن السرد الحديث انبثق
 من رحم الموروث السردي القديم، احتك بالعالم الغربي والاستعمار، وواكب المتغيرات الكبرى، ف"كيان البشرية عبر امتدادها التاريخي، إذ لا تخلو لحظة من لحظاتها من استحضار تقنية السرد لتوثيق وجودها وإثرائه"[14].


هوامش الدراسة:

[1]عبد الله ابراهيم موسوعة السرد العربي ج1 مؤسسة محمد بن راشد ال مكتوم ط1 2016 ص79
[2]موسوعة السرد العربي عبد الله ابراهيم
[3]موسوعة السرد العربي عبد الله ابراهيم
[4]المَطلَبُ الثَّالِثُ: خَصائِصُ النَّثْرِ الفَنِّيِّ في عَصْرِ صَدْرِ الإسْلامِ، الدرر السنية، موسوعة اللغة العربية
[5] سيد قطب التصوير الفني في القرآن دار الشروق الطبعة السابعة عشرة 2004
[6]حنا الفاخوري، الجامع في تاريخ الأدب العربي، (منشورات ذوي القربی ، ط 3، 1427هـ)، ص: 322
[7]شوقي ضيف الفن ومذاهبه في النثر العربي، دار المعارف ط10 ص100
[8]الأصفهاني الأغاني جامع الكتب الإسلامية المجلد 7 ص138
[9]إبراهيم زيدان نوادر العشاق الناشر مؤسس هنداوي 2012 ص249
[10] الدكتور أحمد دوالبي و الطالبة الباحثة بتول دحدوح مجلة جامعة تشرين للبحوث والدراسات العلمية سلسلة الآداب 
و العلوم الإنسانية المجلد 32 العدد 1 2010
[11]محمود مصطفى الأدب العربي و تاريخه في العصر العباسي الجزء 2 ط2
[12]شوقي ضيف المقامة دار المعارف بمصر الطبعة الثالثة ص 9
[13]مصطفى عطية جمعة مقال فن المقامات في تراثنا العربي: الخصوصية و التلقي و التكوين الجمالي صحيفة القدس العربي
[14] الطيب بوعزة ماهية الرواية عالم الأدب والترجمة القاهرة ط1 2016 ص9

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث