![]() |
المبدع محمد اليحياوي |
كان على مقربة من الدرج السفلي، متوجها إلى المستشفى الذي يقصده كل يوم، والذي لم يعد قادرا على دفع تكاليفه.. كان ينحو نحوه، قبل أن يعود أدراجه حيث يوجد مكتبه. نقب عن سيجارته المهترئة وسط الركام.. تلك التي رماها بعد أن وعد نفسه ألا يدخن ثانية. و بعد أن وجدها أشعلها، ثم فتح قنينة كانت بجواره.
أغمض عينيه متذكرا كل تعثراته. انطلاقا من فشله العاطفي.. ومرورا بجيبه الفارغ.. ثم وصولا إلى رسوبه في امتحان الحياة. وفي خضم هذا، كان في كل مرة ينفث فيها الدخان الممزوج بآهاته، يسكب فحوى القنينة عليه. مرة تتلوها أخرى.. إلى أن فرغت هذه الأخيرة.
تماما كحياته التي أصبحت كذلك، بعد دخول ابنه الوحيد في غيبوبة، دامت أربع سنوات إلى الآن. وبالمناسبة لقد كان هذا سبب انقلاب حياته رأسا على عقب.
فجأة رن الهاتف، إلا أنه لم يعره اهتماما. فقد كان يحملق في سيجارته التي أوشكت على أن تنطفئ احتراقا.. وهكذا ابتسم ورماها، قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة. لتأكل النيران المكتب وتقتات على جسم المنتحر، الذي أجابها بالانصهار معها.. ظانا أن همومه وأحزانه ستذوب معه إلى الأبد. وهذا ما كان سيحدث، لولا أن سمعت رسالة صوتية هزت أرجاء المكان:
- لقد استيقظ.. لقد اسيقظ ابننا لقد استيقظ.. أعلم أننا عانينا كثيرا منذ أن دخل في غيبوبته.. لكن دع هذا يطفو بعيدا مع غبار الزمان، فها هو الشعاع قد تسلل لعينيه اليوم، بعد طول انتظار.
الآن، الآن بإمكاني إخبارك أني حامل منك، بل لقد اقترب موعد إنجابي لطفلنا الثاني. لابد أنك مسرور جدا، لأني حقا كذلك. أنا متشوقة لعناقك عزيزي.. عندما تسمع هذا المقطع، اتصل بي فورا. فابننا متشوق لحضن أبيه، أحبك.
وقبل أن يسمع آخر كلمة، كان المسكين قد استسلم للهيب النار المستعرة. مدركا بأن المأساة تعشقه. ولذلك سترافقه حتى أثناء عذابه.. واستمر هكذا، إلى أن لم يعد يرى شيئا، سوى الظلام .
مجلة فن السرد | مشاتل
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا