أوتابينغا | هيثم همامون

الكاتب: هيثم همامونتاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

 


مجلة فن السرد اليوم العالمي للقصة القصيرة

ارتمى الصياد في حضن الأعشاب الناعمة ملوحا لمؤخرة الركب، تبعه الجميع بخطوات منتظمة حذرة. نطق في هدوء:

-لا تتحدثوا.

قفل الجميع راجعِين بخطوتين إلى الوراء بإشارة من رئيس القناصة الذي عدل قبة من تبن من نوع باناما. عرج الجميع يمينا متجاوزين أغصان الأشجار المتشابكة. تهادى الجميع من ثمل الشمس الحارة وقت الظهيرة في غابات السافانا الشاسعة مما طبع على جباههم سيلا من العرق المتقطر بانسياب.

 ومع كل وطء يرتشف الجميع من قرب الماء الدافئ المتدلية على أعناقهم بعدما نال لهيب الشمس الحارقة منها. غَذَّ الموكب السير لمسافة ليست بالقليلة تاركين وراءهم المخنوقين تعبا...ضاربين بسيوفهم الطويلة الأغصان القاسية المشلولة للطريق.

 بعد انتشار ضوء الشمس الكسلى، أعطى رئيس الصيادين أمرا بالتصويب على الهدف المعلن بأنامله. رفع بعضهم البنادق مترددين من غير تركيز وأطلق بعضهم طلقات مشتتة في أرجاء المكان لعل وعسى تصيب الطريدة المنشودة...لسوء الحظ لم تنجح المحاولة الفاشلة، فأسند الجميع ظهره على جذع سنديانة ضخمة تقف بشموخ على ربوة فسيحة. امتنع الجميع عن إكمال الطريق الوعر حتى يتناقص لهيب الشمس الحارقة.

 وما إن مالت الشمس للغروب، نهض الجميع بنشاط كأنهم وقعوا من الكأس نهلا بعد علل، لكن رئيس الصيادين رصد شيئا وخانته الكلمات:

-هناك، هناك، خلف الصخور الكلسية البيضاء.

اقترب الجميع بخطوات رتيبة فوق الحصى. أحست الطريدة بقعقعة الحصى المتصادم فأطلقت سيقانها للريح تاركة وراءها أثير الغبار الأحمر. نفث كبير الصيادين الغبار بيديه حانقا:

-كدنا نمسك بها.

انفلت الحيوان بسرعة مخترقة الغابة كريح صرصر عاتية. ساعتئذ، نالت الهزيمة من الجميع إلاّ كبير الصيادين الذي حثهم على المثابرة ونبذ اليأس. ارتأى بعضهم جمع الحطب استعدادا لليل البهيم، وآخرون استغلوا الدقائق الباقية قبل الغروب لنصب الخيام وإعداد العشاء. 

استقروا قرب نهر جار منبجس من جبال أوغندا السامقة المخيفة. بعد ليلة طويلة، استكملوا الطريق متفائلين بتغريدات العنادل الجياشة. 

مشوا طول الممر المؤدي إلى وسط السافانا لا يسمع حسيسهم إلا من احتكاك بنادقهم على الأقمصة الخشنة وطقطقة الأغصان بفعل نسيم الصباح العليل. تقدم أكتافو رئيس الصيادين متوجسا على رأس الزمرة بعدما تأكد من التحاق الجميع واكتمال العدد. تجمعت بعض الغيوم منذرة بالعواصف وهبوب الرياح. 

اعتلى أحد القناصين المهرة شجرة السنديانة كفهد رشيق منتظرا الهدية الربانية من السماء...ما عساها قد تكون؟ ومع هبوب الرياح القوية التي تقتلع الأخضر واليابس، ألح أكتافو على التوقف لبرهة. تسمر الجميع في أماكنهم مستعدين لأي طارئ متيقنين من الجائزة. أخذ الصياد رمحا مخدرا. وضعه في قوسه ممددا إياه بقوة موجها شفرته الحادة اتجاه الهدف المتوقع قبل الطلق. لاحظ أكتافو ظلا خفيفا وراء أشجار البلوط المترامية الأطراف. استل القناص رمحه برفق. 

عدله بتؤدة ثم أطلق السهم مخترقا الظل فسمع صوت صراخ آدمي يتألم لقوة الطلقة. صاح أكتافو مطبقا الكف على الكف:

-ابتعدوا، ابتعدوا...هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية أصدقائي.

مال أكتافو جهة الحشود مقهقها. امتعضت أنستا لكلامه حانقة:

-هذا أحد سكان الجزيرة ربما؟

لم ينبس بكلمة. أشار بتقييد الرجل البربري المخدر بالحبال لكيلا يطلق رجليه للريح إن ذهب عنه المخدر. تكدر وجه أنستا مانعة هذه المهزلة:

-أوقفوا هذه المهزلة وأطلقوا سراح الرجل المسكين.

وقفت في طريقهم وصرخت مرارا وتكرارا دون أن تلقى أذنا مصغية فالجميع مستمتع باللحظة التاريخية. بربري حيوان أو بالأحرى قرد إنسان. حملوا الجسد النحيف بسهولة عائدين الى المخيم. ألفوا في الطريق صحافيين من شتى أنحاء العالم، تجشموا عناء السفر لتوثيق اللحظة التاريخية. الخيال الذي أصبح حقيقة...من يدري يدعمون بها نظرية التطور؟ أو ينصبون أنفسهم مكتشفي الإنسان البدائي الأول؟ عرج الجميع للمخيم متلذذين بالنصر خلا أنستا المسكينة التي تغالب دموع الأسى لفعلة الوحوش بالإنسان.

 استقبلتهم الاذاعات التلفزيونية بالتصفيق والهتاف كالأبطال مغطين الحدث الرئيسي الأول في العالم. رموا الرجل في القفص كغوريلا. 

رشقوه بقطرات ماء بارد ليستفيق بعدها على عالم جديد، عالم الإنسانية المتطور. أفاق الرجل خائفا متحسرا يبغي الخروج. شد القضبان الحديدية للقفص بقوة صارخا بكلام غير مفهوم. أخذ يدندن ويزعزع المكان بأصواته الشديدة. أثارت حركاته اٍعجابهم فعلق أحد الصحافيين:

-ماذا أسميتموه؟

رد كبير الصيادين:

-أوتابينغا.

أحسّ أوتابينغا في سجنه القميء بشتى أنواع الأبارتيد...ومع كل صرخة تخرج من فمه تنفجر كالبركان:

-أنا لست حيوانا، أنا لست قردا يهان...أريد أن أعود إلى عائلتي وولدي.

أبانت حركاته عن عز وذِلَّة، شجاعة وخوف، حياة وموت. اغرورقت عيناه بالدموع واليأس المقيت. لكن في آخر المطاف لم يأْبَ أوتابينغا إلا أن ينتحر عزيز النفس في القفص، فتغور معه كل الذكريات والأفراح، وتنمحي معه إنسانية الإنسان.  

  

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث