رغم كل البدايات الفاشلة، أبدأ مجددا، من حيث لا أدري. تنتأ الكلمات من جمجمتي فأحصدها وألقي بها هنا، عماذا ستعلن؟ وماذا ستضمر؟ فذلك غيب في علمها فقط.
ذاكرة متشابكة
ليلة أمس، جلست بجوار أمي، أستمع. أنا، عندما أحادثها، أكون الطرف الصامت، تسرح هي في متاهات الذاكرة، فأتلقف ما استطعت من حكايات قد أعلّق على بعضها بكلمات مقتضبة.
أخذها الحديث المتشعب إلى استحضار سيرة جدتي، لم يكن في حكاية أمها ما يثير؛ امرأة تزوجت فتطلقت لأنها لم تنجب، فتزوجت وتطلقت، ثم تزوجت مرة أخيرة لينبجس منها النسل الذي منه أنا، حكاية متكررة عبر الزمن، لكائنات تظن نفسها فريدة، وما فرادتها إلا وهم مستنسخ في جيناتها، ولولا هذا الوهم، لفقدنا الرغبة في الحياة. جدتي، أمي، أنا، ابنتي، ابنتها... دوامة لاتنتهي، اخترناها طواعية دون أدنى عبث من أنامل الجبرية، نحفر خطانا على الدائرة نفسها، راسمين عودنا الأبدي.
هرب، نحو ماذا؟
أحاول كبت حرية هذا التداعي، أفشل. أنفث تنهيدة بينما أنظر إلى ساعتي اليدوية المتشققة، ثم أنطلق بلا وجهة. أرى جدتي في ثوب عرسها الثالث بجوار جدي، أفكر: نسلنا دخل من دكة الاحتياط، لو أن زواجها الأول نجح، لما كنت أمشي الآن، لكن، أحيانا، يكون لاعب الاحتياط أجود من الأساسي.
أدوس على أوراق يابسة فأنحني وأحملها، أفرتكها أكثر ثم أنفخ عليها فتتناثر، أراقب فوضاها قبل أن تسقط، أحمل أوراقا أخرى وأعيد الكرة. ألمح عيونا تراقبني، ثلاثة أطفال، ملامحهم المتشابهة تشي بأنهم إخوة، إما أن لعبتي أعجبتهم، أو أنهم حسبوني مجنونة. أنسحب من أمامهم وأرتقي الطريق نحو "بوعنان".
كيف تحفظ أمي كل تلك الحكايات؟ كيف تنفلت من ذاكرتي رغم يقيني أنها روتها مرارا؟ تحضرني فقط صورة جدتي، وما عداها، يتلاشى.
عين بوعنان
تلفح الشمس وجهي، يدق ألم طفيف غشاوة عيني، أرفع يمناي وأضعها على جبهتي مثل حافة قبعة شمسية. أصل عين "بوعنان" السفلى، أجد الناس متجمهرين لتعبئة قنيناتهم، أنسل بينهم، أحمل كأسا بلاستيكية مثبتة بخيط طويل، وأشرب، ثم أنزوي تحت شجرة وأراقب.
داخل الحشد، تتنطط طفلة بين الأرجل، تمد يدها، تستجدي، لا يصدها زجر ولا تجاهل، ومع انحسار الناس، تركن بجانب سياج القصب، تخرج من ثيابها حفنة نقود، تعدها، تقسمها في يديها، نصف يعود إلى ملابسها، ونصف تدسه في حذائها، ثم تختفي خلف السياج.
شجرة وأرجوحة
الجلوس تحت شجرة أجمل علاج لشقاء النفس، تظل متعثرا في ظلال الحياة حتى يضمك ظلها فيغسل روحك، لكل إنسان شجرة تميزه، شجرة يسكنه طيفها كي يكون التظلل بها مَشرحة للنفس. أنظر إلى شجرتي، أغصانها وأوراقها، إنها شجرة تين، كم منها احتضنت طفولتي؟ كم مرة ثبتت أمي حبلا بأغصانها لتصنع لي أرجوحة؟ أراني أركب الأرجوحة، أتأرجح _بداية_ ببطء، ثم أزيد قوة الدفع فيغمرني هواء بارد، أتأرجح وأتأرجح، أرى الطفلة تخرج من سياج القصب، تنظر إليّ، تشير بأصبعها نحوي وتتقدم مسرعة، أهلع من تقدمها الغريب فأفقد توازني عن الأرجوحة ويطير جسدي ثمّ… أستيقظ فزعة. لا طفلة هنا، لا أرجوحة. نزر من الناس يمارسون الرياضة على الجهة الأخرى. أخذتني سنة أم غرقت في النوم؟ لا أدري، ولا أريد أن أدري، ساعتي المتشققة، لا تحمل جوابا؛ فهي معصومة من الزمن.
منأنة
أطالع أوراق الشجرة، هذا وقت مناسب لـ"المنأنة"، كل إنسان، يسأل نفسه يوما: "من أنا؟"، أنا لا أطرح السؤال فحسب، بل أؤطره:
من أنا بيولوجيا؟
من أنا فلسفيا؟
من أنا اجتماعيا؟
...
ثم أختزل حتى تتبقى المحددات الغالبة على الذات، وهذه هي عملية "المنأنة"، مصطلح أستحق عليه براءة اختراع، لو نجح؛ سيفكر الناس بي قائلين: "الله يرحم والديها"، نعم، لن أقدم هذا الخير للبشرية مجانا.
أنفض عن رأسي ترهاته مثلما أنفض عن أسمالي أدران الأرض، وأخطو إلى العين فأرتشف من الماء وأنحدر من حيث ارتقيت. أفزع من نباح كلب قريب، أحسبه عليّ إلى أن أتحرى فألمح الطفلة تراقبني بعين خفية، أتصنع عدم اكتشافها وأتابع طريقي مختبرة صدق هواجسي: هل تتبعني من العين؟ أم أنها صدفة؟ماذا لو كان برفقتها بعض الصعاليك يتربصون بي؟
راصد ومرصود
تحتاجين أحيانا أن يستوقفك أحدهم على قارعة الطريق، يربت على كتفك: "لا بأس، سيكون كل شيء بخير"، تحتاجين وضع هذا المرهم الوهمي على جرحك الغائر، تحتاجين تضميد تقرحات روحك بشريط أمل شاحب، رغم يقينك بأن لا شيء سيغدو بخير.
تكررين سؤال الجدوى في ذهنك لمرات عديدة لاجدوى منها، تتابعين سيرك مرصودة بأعين طفلة لا وجود لها، صنعتها لنفسك، وجعلت الهروب من عينيها هدف حياتك، ترينها جوار المنزل وفي الطرقات، تتحاشينها داعية إياها للظهور في بقاع أخرى، أنت هكذا "راصد ومرصود". أتريدين أن تصيري جون ناش الجديد؟ لا مجال لذلك، فالفروقات بينكما كثيرة، هو لم يصنع شخصياته مثلك، لم يعجنها من صلصال خياله مثلك، إنه يطارد هدفه، أما أنت، فأقصى أمنياتك، أن تجدي هدفا تطاردينه.
خيط
تقدمين قرابينك للنسيان كي يقبلك في جنته، فيجزيك بجحيم الذاكرة، يحرق وجودك فيذره قاعا صفصفا إلا من حضورها الثابت، على الحال الذي خلفتها عليه منذ سنين، جسد نحيف يناسب عمرها، ثمان هن الأجمل في حياتك، بدأت بولادتها وانتهت برحيلها. ماذا تبغين من التنكر لوجودها الدائم جوارك؟ ليست هي من يمكن وصفها بـ"الوفية" في قصتك، فالوفي الحق خيط رفيع في ذاكرتك، هو أوهن من خيط العنكبوت، لكنه يستمد قوته من قدراته الكمومية، قطره أدق من قطر إلكترون، وطوله يشمل الكون، تحاولين لفه بمغزل التجاهل؛ فيجعلك مغزله ويلتف حولك.
تتابعين سيرك لكن لاتدرين، محمولة على قِدرٍ قَدَريّ، تعبرين قنطرة "بوعنان" ثم تلجين المحطة الطرقية، يعترضك أول مناد فتلبين نداءه وتؤدين ثمن التذكرة، ستمضين جاهلة فنون الهرب، ستذبل روحك قبل الوصول، وتكررين أمام حضورها المثول، ثم تأملين، عساك لا تكونين آخر لؤلؤة في عقد "العود الأبدي".
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا