خفت الضوء برهة، ثم عاد إلى وهجه الأصلي، فكرت في أن عطبا ما أصاب المصباح، لكنني لم أبادر بأي احتياط، بل ظللت جالسا، أمسك كوب شاي أسود بالليمون، وأتمعن في القشرة الجيرية التي غادرت موضعها من الحائط، مخلفة بقعة رمادية أشبه بخريطة أرض مجهولة. متى تهاوت على الأرض؟ ومتى تجمع غبارها الأبيض في الركن؟
ربط ذهني بين خفوت المصباح وتقشر الحائط، كأن الحياة تعلن عن تآكلها بإشارات خاطفة، بوادر صغيرة تتراكم حتى تفرض نفسها، كأنها تقول: "هذا هو الإنسان، جدار يتآكل تدريجيا إلى أن تتجلى تصدعاته".
نهضت فلمست جوانب البقعة الرمادية، مرّرت عليها أناملي، فانسل غبار خفيف، معلنا عن انتفاخ أصاب جزءا آخر من الصباغة الجيرية للحائط جرّاء البرودة. رشفت من شايي وأنا أردد: "نتهاوى ببطء، بينما نحسب أننا ننضج، فما النضج إذن؟ ما النضج؟ أليس إلا انكشافا متواترا لغشاوة الموت؟"، هدّني التفكير، فدبت قشعريرة في جسدي، وتسارع خفقان قلبي، قاومت، وأجهزت على شايي.
رفعت عينيّ نحو السقف، فتعلقتا بشق يتوغل فيه، كأنهما بقوة مغناطيسية ستمنعانه من التوسع، حتى حال بيني وبينه وجه أعرفه جيدا، لم تمل عليّ ذاكرتي سوى: "أعرفه جيدا"، لكن تفاصيل المعرفة ظلت مبعثرة في جزء غامض منها، إلى أن أخرجها هو بصوت ترافقه ابتسامة مترهلة: "أتريد شيئا آخر يا أبي؟".
معاذ... ابني.
تأملت وجهه، تأملت أبوتي الآخذة في التلاشي. ولما لم ينل مني جوابا سحب رأسه فبرز الشق من جديد. اقتلعت من جوفي كلمات متحشرجة: "أحضر لي بعض الإسمنت كي أسد الشق، وإلا تسللت منه الشياطين."
تردد جوابه في أذني كما لو كان يصدر من سماعة هاتف: "أي شياطين، يا أبي؟ أأنت من تقول هذا؟". أردت أن أستدير نحوه، فتمنع جسدي، صار مجموع القوى المطبقة عليه يساوي متجهة منعدمة، هذا ما كنت أمليه على تلاميذي في درس الحركة والسكون، وها أنذا أختبر السكون قسرا. حاولت ثانية، دفعت بكل ما أوتيت من قوة، لكن ذاكرتي رقت لحالي، وأخبرتني أنني على هذه الحال منذ ما يناهز سنة. سنة كاملة، والشياطين تتسرب من الشق فتكبلني، لكن، كوب شايي، القشرة الجيرية، هل كنت أهذي؟ ابتسمت، فعاد ابني ليحول بيني وبين الشق، بابتسامة مشرقة، قال: "لقد أحييتني بابتسامتك يا أبي"، أسعدني كلامه، لكن الضوء بدأ يخفت، انتظرته أن يفعل شيئا ليعيد وهجه، بيد أنه لم يفعل. حينها، أدركت أن هذا الخفوت، يعنيني وحدي.
مجلة فن السرد | محاكاة
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا