أرتجف من البرد، ولا ملابس على جسدي الهزيل سوى معطف ممتلئ بالثقوب، الأمطار تهطل بغزارة كأن السماء ترغب في مسح شيء عظيم عالق على هذه الأرض، لكن ما ذنبي أنا؟ أي لعنة تتبعني؟ أعبر الأزقة الضيقة بخطوات متعثرة، أقدامي العارية تغوص في الوحل، والمطر لا ينفك عن مواصلة هجومه، يلسع وجهي كأنه يريد إيقاظي من حلم لا أدرك أنني في ثناياه، لا ملجأ لي سوى الظلام الذي يلف المدينة، ولا رفيق لي سوى صدى أنفاسي المرتجفة. أحاول أن أستجمع ذكرياتي، أن أجد خيطًا يربطني بشيء كنت عليه قبل أن ألقى في هذه العاصفة، لكني لا أحصل على شيء سوى فراغٍ يمتد في رأسي، كما تمتد العتمة من حولي، وبعض الذكريات التي تتجلى بين الفينة والأخرى، دون أن أتمكن من تفكيك شفرتها، أسمع صراخ رجل تارة، وتارة أخرى يمزق نحيب امرأة طبل أذني، أعود وأتساءل، من أنا؟ كيف أرغمتني السبل على سلك هذا الطريق؟ ولماذا يبدو العالم وكأنه يرفضني ويختارني من دون الناس ليذيقني من أمر كؤوسه؟
أتابع المسير، باحثا عن مهجع، عن دفء، عن أي شيء يشعرني بأنني إنسان، أزلت الدموع الممتزجة بالغبار عن أجفاني، فرأيت منزلا شاسعا نصف بابه مفتوح، ينبعث منه ضوء خافت، تقدمت نحوه ببطء، انتابتني رهبة لم أعرف سببها، لكنني اقتحمت المكان، الأثاث منظم والمدفئة المشتعلة أشعرتني بدفء غاب عني منذ أمد طويل، تقدمت قليلا فاصطدمت بباب إحدى الغرف، تسمرت في مكاني، فإذا بالباب انفتح وخرج من الغرفة رجل ستيني، إلا أن الظلام حال دون أن ألتقط جل ملامحه.
ناداني باسمي فخفق قلبي وفشلت قدماي على استحمال ثقل ما أحمله من مشاعر مضطهدة، عم الصمت على المكان للحظة ثم أقبل نحوي، تنمس بأنامله خصلات شعري، وحدثني بنبرة متقطعة، بالكاد تخرج الكلمات من شفتيه: بني، لا أعرف ما الذي يجب علي فعله لإصلاح الأمر، أخذتك إلى الطبيب النفسي لسنوات، تشاركت معك الغرفة لليال لا تحصى، لكنك لا تظهر تحسنا، ما زلت لم تتخلص من تبعات ما تجرعته في الشوارع قبل أن أتبناك، تراجعتُ خطوة إلى الوراء، شعرتُ بأنفاسي تضيق، وكأن الأكسجين اختفى من البيت، أجلت طرفي في ذهول، وتمسكتُ بالحائط مخافة السقوط، سؤال واحد ظل يحاصر تلافيف دماغي، تصاحبه حمى حادة، وألم عظيم داخل رأسي، يشعرني أنني على شفا الجنون، صرخت لاعنا "من أنت؟ وكيف تبنيتني؟" أطرق الستيني رأسه بحزن وظل جامدا، رفعتُ يدي لأزيح المطر عن وجهي، لكنني شعرتُ بخشونة على جلدي، ولأنه ربما كان متعودا على الأمر، أشعل المصباح، وحمل المرآة التي كانت قريبة منه، تحدق بي، فتتغير ملابسي وتصبح جديدة ونظيفة، أما شعري فلم يعد أشعثا بل صار براقا، بينما عيناي كانتا تلمعان ولا آثار للغبار أو للدموع عليهما. حتى إن كانت ملامح الإنسان مرتبة، يبقى شيء ما داخل أغواره مشوه ومخيف.
تراجعتُ خطوة إلى الوراء، لا شيء يبدو حقيقيا، المرآة تعكس وجها لا أعرفه، والدفء الذي يملأ الغرفة يلفظني بدلا من أن يحتويني، الرجل الستيني ما زال يحدق بي بعينين تفيضان بالحزن، لكني لم أعد أصدق شيئا.
ما الذي يضمن لي أن هذه ليست كذبة أخرى؟ خدعة جديدة لتقييدي داخل حياة تعيس لا يملك أبناء ولا زوجة؟ شعرتُ بجسدي ينتفض، وكأنني أختنق داخل جلدي، لم أكن بحاجة إلى مرآة لأعرف أنني ما زلت عالقا في متاهة مكان لا أنتمي إليه، التفتُّ نحوه، لم أقل شيئا، لم أكن بحاجة إلى كلمات، رأيت في عينيه أنه فهم.
اندفعتُ نحو الباب، فتحته بقوة، كأنني أحطم سلسلة من القيود الخفية، المطر ما زال يهطل بغزارة، والبرد يقبل وجهي، لكنني لم أشعر بشيء، ركضتُ، لا أدري إلى أين، فقط كنت أهرب، أهرب من هذا الدفء الذي لا أعرفه، من الذكريات التي لا أملكها، من الحياة التي يريدونني أن أعيشها بلا وعي. الأزقة الضيقة عادت تستقبلني بصمتها المقيت، المياه القذرة غمرت قدميّ العاريتين، والظلام، رفيقي القديم، عائلتي الوحيدة، فتح ذراعيه لي من جديد، هنا على الأقل أعرف من أنا عندما أرى انعكاس وجهي في هذه المياه العكرة.
مجلة فن السرد | مشاتل
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا