![]() |
المبدع د. حارص عمار النقيب- مصر |
الوقت يمر ببطء في معمل إثبات النسب (DNA)، الزوج "هاشم" وأبو الزوجة "عبد البديع"، كلٌّ منهما يضع رأسه بين يديه، كأنهما يرزحان تحت حمل السنين.
عاد "عبد البديع" بذاكرته سنوات طويلة للوراء مع صرخات أول وآخر مولوده له، وما أن سمع هذه الصرخات حتى اقتحم الغرفة التي ترقد فيها زوجته مع القابلة التي كانت تساعدها في الولادة:
- "عبد البديع.. عبد البديع."
ظل صدى المناداة بهذا الاسم يطن في أذنيه بصوت زوجته الواهن؛ بعد مخاض عسير، صوتها الذي مرت عليه سنون طويلة، مازال يتردد كأنه الآن:
- "عبد البديع.. عبد البـ.."
- نعم.
- "شوف جميلة، زي القمر"
رفعها بين يديه، وقبّل جبينها الصغير، ضحك من حركات يديها وقدميها العشوائية وصرخاتها الضعيفة، مسح بسبابته على عينيها المغلقتين، رفع صوت الأذان في أذنها اليمنى، وأقام في أذنها اليسرى بصوت هادئ مسموع تغلفه العبرات، تبسمل وتحوقل قبل أن يضعها بجوار زوجته ثم قال:
- نسميها "قمر" يا أم قمر.
الحاضر يجذبه بعنف، ومع ذلك يبتسم رغم الدموع التي تجمدت في عينيه، يهز رأسه يمينًا ويسارًا، ويضرب كفًا على كف، مسيّرًا بين الحاضر والماضي بلا اختيار، حيث تجذبه الذكريات برفق للماضي فيتذكر صوت "قمر" الفتاة الصغيرة ذات الضفائر الذهبية وهي تقول له:
- "بابا.. بابا."
- نعم يا حياة بابا.
- "أريد حقيبة كتب للمدرسة."
يحتضن رأسها الصغير ويداعب ضفائرها ويقول لها:
- حاضر، تعالي نروح المكتبة الجديدة واختاري أحلى حقيبة.
الذكريات كفيضان نهر لا يكف عن التدفق، تقف فقط لثوان عند الأحداث الجميلة عبر سنوات ابنته "قمر"، حتى انتهت من التعليم الجامعي كأول فتاة من قريتهم تدخل الجامعة، وتتخرج من إحدى كليات القمة؛ الطب.
- "بابا.. كيف أذهب للجامعة..، بابا أنت أبو الدكتورة القمر "قمر"."
يعود مرة أخرى للزفير بصوتٍ عالٍ، وكأن الذكريات الجميلة تحولت إلى خناجر تمزق أحشاءه قبل أن تلهب شفتيه ووجهه.
لا يتذكر "عبد البديع" تعبيرات وجهه في كل هذه الأحداث، ولكن يتذكر انعكاسها على وجه "قمر"، شريط الذكريات لا يريد التوقف.
يجذبه صوت زفير الجالس بجواره، إنه "هاشم"، فيتأمل وجهه الذي تتوه معالمه مع صوت جميل يأتيه من الماضي:
- "بابا.. "هاشم" طبيب ناجح رغم صغر سنه، ما رأيك؟"
"هاشم".. "هاشم"، أجل "هاشم" الزوج الخاسر في معركة كل أطرافها خاسرون، هناك جرح لن يلتئم أبدًا، سواء أكان النسب له أم لا؟
"هاشم".. "هاشم"، يتردد في ذهن الأب، وكأن هناك التقاءً روحيًا بين الاثنين، هذا الالتقاء يدفع "هاشم" لرفع رأسه في فزع؛ كأنه يستجيب للنداء، ثم يلتفت بسرعة إلى عالم لا نهائي، فارغ في الفضاء الغاضب ذي السحب الداكنة المتلاطمة، المتشحة بالسواد، كأنه يشاركهم الهموم.
ذلك الفضاء الذي يظهر عبر النافذة في يوم شتوي، تقتل فيه السحب أشعة الشمس، فيعود "هاشم" إلى بدايات زواجه من "قمر" والاستعداد للسفر:
- ""هاشم".. "هاشم"."
- نعم يا حبيبتي وعمري، يا قمر لياليَّ.
- "حبيبي.. هناك فرصة للسفر إلى الخليج.. العمل والدخل المرتفع سوف يساعدنا على بناء حياة مستقرة والتغلب على كل مشاكلنا المادية."
ذكريات بدايات السفر والاستقرار في العمل وتلك النزهات التي أصبحت تقل كلما انشغلا في جمع الأموال، والاحتفالات التي كانا يقيمانها على أتفه المواقف تباعدت، أصبحت تُقام فقط عند كل مولود جديد أو زيادة في الراتب:
- ""هاشم" حياتي أول مولود لنا في الغربة.. ثاني مولود.. "هاشم".. نشتري شقة، أريد قصر..، ننتظر عامًا آخر.."، أعوامًا تمر.
تباعدت فترات اللقاء، فكلاهما منشغل بعمله، حتى في نهاية الأسبوع هناك عمل إضافي، فيتقابلان نهاية كل الشهر.
- ""هاشم"..، أنا حامل.. ماذا أفعل؟ ضغوط العمل."
- خلاص يا "قمر"؛ هذا آخر عام لنا في الغربة.
مر العام بسرعة، وعاد "هاشم" وزوجته "قمر"، وثلاثة أطفال إلى الوطن، افتتحا عيادة جديدة بجوار قصرهم الجميل.
الانشغال لا يتوقف، لمواجهة ضغوط المعيشة وتربية الأبناء، مع المحافظة على مدخراتهم.
- ""هاشم".. "هاشم"، أين ذهبت؟ هل أنت معي؟"
- أبدًا يا "قمر"؛ ضغوط الحياة، ومدارس الأطفال، ولكن هذا الطفل الأخير شكله غريب، الكل لاحظ ذلك.
- "غريب كيف!!؟"
- بشرته الصفراء، وشعره وعيونه تشبه الصينين.
تعلو وجهها ابتسامة عريضة، ففتح هذا الموضوع نوع من التندر والمرح، وكسر جمود الحياة، ولكن مع نمو الطفل، برزت ملامحه بشكل واضح، فعلًا صيني الشكل، وهذا لا يقبل الشك.
يرجع "هاشم" بتفكيره إلى الخلف، وعيناه مثبتتان على بقعة مزيج ما بين اللونين الأحمر والأسود على بلاط معمل التحليل، ويتذكر آخر لقاء وحديثه معها:
- أعترفِ.. إنه الطبيب الصيني؛ الذي كان معك في الدوام، هل هذا صحيح؟
- "أنت مجنون."
- لست مجنونًا، ما رأيك بتحليل (DNA).
قال هذه الكلمة، وكأنه قذف "قمر" بصاعقة حطمتها، جعلتها تسقط على الأرض فاقدة للوعي.
إرسال العينات، والانتظار الطويل الكئيب، والذهاب للمعمل حسب الموعد؛ وها هم في الانتظار لمعرفة النتيجة.
- "دكتور "هاشم هشام هاشم".
قال ذلك صوت أجش، جعل "هاشم" ينتفض واقفًا، لا يعرف هل يجري إليه أم يجري منه؟ لحظات الحيرة لم تدم طويلًا، ذهب إليه "هاشم" متثاقلًا، دون الالتفات حتى لأبيها الجالس بجواره.
مجلة فن السرد | محاكاة
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا