صفير الرحيل | بلال الخوخي

الكاتب: بلال.ختاريخ النشر: عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

مجلة فن السرد اليوم العالمي للقصة القصيرة



في اللحظة التي وضع إصبعيه في فمه طاويا لسانه ونافخا، أحس بومضة دماغية، كفكرة خاطفة عادت إلى العدم قبل أن يستوعبها وعيه. شيء ما لم يكن على مايرام. تيقن أن طارئا قد حل به، كأنما اقتحم بابا لا رجعة منه، مثل الموت.
أشاح ببصره نحو غنمه المنتشر في الحقل، تلتهم العشب بلا اكتراث، وكلبه باسط الذراعين، يرقب الوضع في هدوء. هجس بأنه سيشتاق لهذا المشهد البديع، وشعر بأن خواء يغمره مخلفا بردا طفيفا في أنامله، فتجمعت دمعتان في عينيه. أعاد طي لسانه بإصبعيه ثم نفخ، لكن الصوت المعتاد، الصوت المخترق للمسافات نحو غياهب المجهول، الصوت المترجم للغة الروح الرابطة بينه وبين غنمه وكلبه، لم يصدر، إن المصيبة حلت بالفعل، ووقعت النبوءة المنسية.
"كيف حدث هذا؟"، لا فائدة من سؤال الكيف، ارتج قلبه، فنهض من تحت الشجرة مذعورا. هش على غنمه بيديه فلم تستجب، اكتفت بتغيير مواضعها في الحقل، وكأنها لم تعد تفهم إشاراته. حتى كلبه لم يتحرك، لم يهب مهرولا كما اعتاد حين يسمع الصفير، لكنه لم يسمع، لأن التصفير، أمسى عسيرا، أمسى مستحيلا.
اقترب من حافة الوادي، حيث أطلق أول صفير متقن في طفولته، حيث غمره شعور الإنجاز ونشوة الارتباط. هبت رياح خفيفة، تخللت أوراق الأشجار، فأنصت إلى حفيفها كأنه موسيقى طربية، تغلغلت في نفسه فطفح عليه الشجن، "أهو الوداع، أيها الوادي؟ أهي النهاية؟".
رفع يديه إلى فمه مرة أخرى، طوى لسانه، حرص أن لا يرتكب أي خطأ، تذكر تحذير أخيه حين علمه أول مرة: "إن أدنى ارتباك في اليد أو اللسان، يجعلك تخطئ التصفير"، لم يزحزح يده، ولا لسانه، تأكد أنهما على الوضع الصحيح، نفخ، بكل قوة، بتوسط، بهدوء، لكن نفخاته تلاشت في الريح، والتهمها الفراغ، لم يعد هناك صدى يرتد من الطبيعة، كأنها أنكرت وجوده، وكأن الصفير، كان بطاقة هويته، وانتمائه، وعندما فقده، صار غريبا عنها.
ولى نحو الديار متجاهلا غنمه، متمتما لنفسه متجهما: "آن لي أن أنسى، وأن أعيش لكي أعيش، بلا روابط وجودية، بلا انتماءات إنسانية، فربما أصير، أصير سياسيا"، طأطأ رأسه وتابع المسير، بدا له المنزل بعيدا، فعرج نحو اليسار، ومشى.

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث