لَيْتَنِي لَمْ | ريم محمد التمرو

 

ريم محمد التمرو قصة
المبدعة ريم محمد التمرو


حمل أحمدُ همومه على ظهره وراح يتجوَّل في شوارع المدينة، ضاقت عليه الأرض بما رحُبت، لم يجد طريقاً يسلكه ولا مكاناً يقصده، فالإسفلت الأسود ليس مساره، والرصيف المبلَّط لم يعد للمارَّة، والمقاهي لها ناسها، أراد التخلُّص من همومه، لكنَّها كانت ملتصقة به كجلده.

"ماذا أنا فاعلٌ بهذه الهموم... البحر أم القبر" كان يسأل نفسه وهو يمشي ببطءٍ شديد وكأنَّما خطواته تتعارك بصمتٍ وترفضُ المسير، بينما الأفكار كانت تلتهم ما بقي من روحه، وفجأةً بدأت الناس تتراكض وتتدافع في الشارع بشكلٍ جنوني، وانتشرت أعمدة الدخان في كلِّ مكان، فعاد إلى وعيه وهمَّ بالركض وإذا بطفلٍ صغيرٍ–يبدو في الثامنة من عمره- كان يجلس على قارعة الطريق جعله يقف في مكانه متسائلاً عن حال هذا الطفل، ما الذي يجعله لا يهتمُّ بما يحدث حوله؟ اقترب منه وأراد الإمساك بيده ليبعده عن المكان لكنَّ الطفل كان يرفض النهوض.

 فقال له: "هيا أيُّها الصغير .. يبدو أنَّ الأمر خطيرٌ جداً وعلينا مغادرة المكان حالاً"

لكنَّ الطفل لم يحرِّك ساكناً ولم يَبح بكلمة، عندها وجد أحمدُ نفسه يجلس بجانب الطفل وقد نسي أمر الناس والفوضى التي عمَّت المكان، إلاَّ أنَّ فضوله دفعه إلى سؤال الطفل:

"لِمَ لم تهرب وتنجُ بنفسك كما فعل هؤلاء الناس"

 نظر الطفل إلى أحمدَ والدموع قد ملأت مقلتيه، وبدأت ملامح الحزن العميق تعلو وجهه البريء، بينما أحمدُ يتأمل صمته المدوّي، ويُحدِّث نفسه:

"ما الذي يجعل وجه طفلٍ يبدو كورقة الخريف"

ثمَّ راح يكلّمه كي يشعر بالأمان والطمأنينة، واصطنع ابتسامةً كان قد نسي طريقتها، أملاً بأن يصل إلى القلب الصغير الهرم، لم يعد يكترث لفضوله البشري، ولا يرغب بمعرفة شيءٍ، عندها اقترب الطفل من أحمد وقال له بصوتٍ مكبلٍ بالخوف والحزن:

"لقد ركضت في المرَّة الماضية وأسرعت كما طلبت مني أمّي، لكنَّني بعدها أصبحت وحيداً"

ثمَّ أردف قائلاً وقد ملأت جوارحه الرغبة في الكلام وكأنَّه لم يتحدث منذ زمن

"ليتني لم أركض، ليتني بقيت مع عائلتي، لقد أصبحت بلا عائلة وبلا منزل.. ليتني لم أركض – كرَّر قوله-".

سالت دموع أحمدَ التي أحرقت مجراها وأذابت صفائح همومه المتراكمة، وأخذ بيد الطفل الذي التفت إلى يمين أحمد ونظر قريباً ثمَّ نهض وهو يقول: "بل مع أمي"

فانتفض أحمدُ مرتعشاً وبيديه المرتجفة أمسك بذراعي الطفل، همس في أذنه، وغابا وسط الدخان بعد أن قطع عليه وعداً بأنَّه لن يكون وحيداً بعد الآن في كل حال.

المبدعة ريم محمد التمرو

حمص – سوريا

مجلة فن السرد | محاكاة


التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث