![]() |
المبدع إبراهيم ياسين |
لم أعرف من قبل حبّة دواء بهذا الاخضرار. لا أتكلّم هنا عن خضرة الأعشاب والأشجار التي نصادفها كل يوم.
كان لونها أغرب من هذا حتى أنني شككْت بوجود هذه الدرجة من اللون الأخضر في الطبيعة. كنت كما الغريب الذي "يتعلّق بقشّة" مضطراً لتجربة أي شيء جديد لعلاجي من فرط الانفعال الذي بدأ يحوّل حياتي إلى جحيم، بعد أن فشلتْ جميع البدائل العلاجية، وما أكثرها بين يدي رجال الطب والدين على حد سواء.
شيءٌ خفيّ دفعني إلى الوثوق بهذا الشيء الغامض. ربما الغموض بحدّ ذاته يملك غوايةً لا تملكها الأشياء الواضحة. حتى الطبيب الغامض صاحب العيادة الغامضة بالحيّ الغامض، بدا شديد الإقناع وهو يناولني الحبة بتأنٍّ، ويوصيني ضاغطا على كلماته "إحذر الآثار الجانبية!".
كان ابتلاع الحبة أول عملٍ أقوم به في الصباح التالي. ومثل كل اللاهثين خلف معجزةٍ ما، انتظرْت مفعولاً سحرياً في اللحظات الأولى، كأن يولد بداخلي إنسانٌ جديد، أو أن أشعر بجدارٍ داخليٍّ سميك وُلِدَ لتوّه لتحصيني من كلّ ما في الخارج، بيدَ أن أيّاً من ذلك لم يحدث.
كان شرطيّ المرور الذي خالفني وأنا بطريقي لعمل الاختبار الأوّل للحبة، وأشهد بأنها نجحتْ نجاحاً باهراً آنذاك. لم تراودني المشاعر المعتادة يومها، بل وعلى العكس من ذلك لم يُثِر المشهد فيّ أي انفعال يُذكر. بدا وكأنه مشهدٌ تلفزيوني وأنا أشاهده من على كرسيّ السائق.
حتى عندما وصلْت متأخراً للدوام، راحتْ توبيخات المدير تنهال عليّ برفقٍ وكأنها رذاذ مطرٍ ربيعيٍّ هادئ، وهو الذي اعتاد على شحذ عباراته الحادة وتفخيخها بأقوى الكلمات اللاذعة.
حتى صاحب البقالة الذي قابلْته في طريق عودتي للبيت، بدا وكأنه يُطلعني على لوحةٍ فنيةٍ فائقة الروعة وهو يرفع بوجهي صفحةً من دفتر الحسابات محشوةً برسوم وأرقام لديونٍ تراكمتْ عليّ ولم أسدّدها حتى اللحظة.
دخلْت المنزل وأنا أصفّر لحن إحدى الأغنيات الشعبية. لم أتذكّر متى صفّرت آخر مرّة، ربما حين كنت صغيراً يوم نهاني والدي عن ذلك بحجة أن التصفير يستدعي الشياطين ويطرد الملائكة. دخلْت الحمام لأغسل وجهي على إيقاع المقطع الثاني من الأغنية. نظرْت إلى المرآة وشاهدْت بفزعٍ ما اعتقدْت أنه أول الآثار الجانبية.
بدا وجهي مائلاً إلى الخضرة الداكنة، وفمي أطول من حجمه المعتاد حتى كاد أن يلمس المرآة. صرخْت بفزعٍ فبانتْ أسناني للحظة. كانت طويلةً جداً وحادة أكثر من العادة وجاهزة لتقطيع طعامٍ أقسى بعشرات المرّات من وجباتي المعتادة. نظرْت بهلعٍ أتفقّد أيّة تغييراتٍ أخرى في بدني! فهالني جلدي بسماكته المستجدّة وشكله الجديد المقطّع إلى مستطيلاتٍ متراصّة كأحجار القرميد.
هرعْت إلى غرفة النوم لأبدّل ملابسي كي أقصد عيادة ذلك المجنون، لأفرغ بصدره بضع رصاصاتٍ علّني أخلّص الطب والبشريّة على حدٍّ سواء. عانيْت بشدّةٍ في إدخال رأسي الجديد في فتحة القميص الضيقة. غير أني ما استطعْت بشتّى الوسائل ارتداء البنطال الذي حال بينه وبين جسدي ذيلٌ أخضر طويل انبثق لتوّه مختتماً سلسلة الآثار الجانبية للعقار.
هبطْت إلى الشارع وأنا أقاوم بطء مشيتي الثقيلة التي أصبحت على أربعة أطرافٍ بدلاً من اثنين. جميع من كانوا في الشارع راحوا يشيرون عليّ بذعر. بعضهم لم يفوّت التقاط اللحظة لتوثيقها على جوّاله، والبعض هرّب أطفاله من المكان خشية هجومٍ مباغتٍ مني، بينما أخذ البعض يطالب بإخطار السلطات فوراً لإرجاعي إلى المكان الذي أُفلِتُّ منه.
حضر أخيراً بضعة رجالٍ بأزياء خضراء تشبه جلدي إلى حدٍّ كبير. أطلق أحدهم عليّ طلقةً مخدّرة كانت كفيلةً بأن أنغمس في ظلامٍ دامس لفترةٍ ما زلت أجهلها.
أستيقظ اليوم ككلّ نهارٍ في مستنقعي الجميل الذي أُنشأَ خصيصاً لي ولأقراني على تلّةٍ رابضة على كتف الطريق السريع. يلوّح الأطفال لنا من سيارتهم فلا نشعر كالعادة بأي انفعالٍ يُذكر. تعرّفت على الكثير من الأصدقاء مذ حضرْت إلى هنا. بدا الكثير منهم مألوفاً لي. لا شكّ أن زبائن ذلك الطبيب المجنون كانوا كُثُر. ولا شكّ أنهم في تزايد مستمر.
أذرع أرجاء المكان وصولاً إلى السياج المعدني الفاصل بين المستنقع والطريق. أراقب السائقين بشماتةٍ والحياة تطبع على وجوههم شتى أنواع الانفعالات. أعود إلى المستنقع ثمّ أحبس نفساً عميقاً بصدري وأغوص للأعماق مغمضاً عينيّ وفي ذهني يتردّد صفيرٌ للحن أغنيةٍ أحبّها بشدّة.
مجلة فن السرد | محاكاة
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا