طيران فوق "مصحة الدمى" للقاص المغربي أنيس الرافعي | عبد الرحيم التدلاوي

أنيس الرافعي مصحة الدمى خطوط وظلال

 

  
أنيس الرافعي مصحة الدمى خطوط وظلال
بقلم الناقد المغربي عبد الرحيم التدلاوي 


تبرز المتوالية القصصية "مصحة الدمى" للكاتب أنيس الرافعي كعمل إبداعي متفرد ، يتميز بلغة سردية رشيقة وبناء درامي متين. يمثل هذا النص رحلة استكشافية عميقة في عالم الرمزية والفلسفة، حيث يطرح الكاتب تساؤلات جوهرية حول ماهية الإنسان وهويته في مواجهة قوى المجتمع والسلطة.

  إن "مصحة الدمى" ليست مجرد سرد للأحداث، بل هي تحليل نفسي عميق لشخصيات معقدة ، تعيش صراعات داخلية وحقيقية. يوظف الرافعي تقنيات سردية مبتكرة، كاستخدام الرمزية والتشخيص، لخلق عالم موازٍ يعكس انعكاسات العالم الحقيقي. فدمى المصحة ليست مجرد أشياء جامدة، بل هي تجسيد لأحلام وأماني وأوجاع البشر.

أنيس الرافعي مصحة الدمى خطوط وظلال
غلاف طبعة دار خطوط وظلال

يتناول العمل مجموعة واسعة من القضايا الإنسانية، من الهوية والانتماء إلى الحرية والمسؤولية. يقدم الرافعي قراءة نقدية للأنظمة الاجتماعية، التي تسعى إلى تشكيل الإنسان وفقاً لرؤيتها، وكيف يؤثر ذلك على فرديته ووجوده.

  أولا ؛ العنوان ودلالاته الرمزية :

   يشير عنوان المتوالية القصصية "مصحة الدمى" إلى فضاء غير مألوف يجمع بين مفهومين متناقضين: المصحة كفضاء علاج وتأهيل، والدمى ككائنات جامدة فاقدة للحياة. هذه المفارقة تثير تساؤلات عميقة حول طبيعة المصحة: هل هي فضاء للتعافي النفسي والاجتماعي، أم أنها تمثل نظاما سلطويا يسعى إلى قولبة الشخصيات وتقييد حريتها؟ العنوان يفتح أمام القارئ أفقا من التأويلات ، التي تشير إلى صراع داخلي بين العلاج والسيطرة.

  ثانيا ؛ الغلاف وعبوره إلى النص :

  تأتي صورة الغلاف لتسهم في تقديم دلالة عميقة تضاف إلى المتوالية القصصية . يظهر في الغلاف مشهد لدمى معزولة ومحيطة بعناصر داكنة، مما يعزز شعور الاختناق والعزلة. يشكل هذا الغلاف "عتبة نصية" تساهم في تهيئة القارئ لاستقبال النص بقلق وتوتر، مدخلةً إياه في عالم مليء بالمشاعر المتناقضة، التي تعاني منها الشخصيات داخل المصحة.

أنيس الرافعي مصحة الدمى خطوط وظلال
أغلفة طبعات دار العين

ثالثا ؛ الشخصيات ودورها في بناء الرمزية :

  تجسد الشخصيات في "مصحة الدمى" صورا من الاغتراب النفسي والاجتماعي، حيث تعبر عن معاناة الأفراد الذين يواجهون قوى خارجية تحاول التحكم في مصيرهم. تلعب الدمى دور الشخصيات التي تسعى إلى التحرر من القيود المفروضة عليها. بالمقابل، تجسد شخصيات السلطة مثل الأطباء أو مديري المصحة النظام القمعي ، الذي يسعى إلى إخضاع الشخصيات والتحكم بها. تتميز الشخصية الرئيسية، التي غالبا ما تحاول التمرد على النظام، بصراع داخلي يتراوح بين الاستسلام والرغبة في التحرر. هذه الدمى ليست مجرد رموز للجمود، بل هي كائنات تنبض بالصراع والرغبة في الانعتاق من الهياكل الصارمة.

رابعا ؛ الحبكة والتوتر السردي

تتسم الحبكة بطابع دائري، حيث تتكرر الأحداث بشكل يعكس دورة من المحاولة والانتكاس. يبدأ المحكي السردي بوصول الشخصيات إلى المصحة، ومحاولاتها للتكيف مع النظام المفروض عليها. مع تطور الحبكة، يتصاعد التوتر عبر محاولات بعض الدمى للتمرد على القيود المفروضة عليها، سواء من خلال الهروب أو اكتشاف أسرار المصحة. يصل التوتر إلى ذروته عندما تقرر الشخصيات تحدي النظام القمعي، مما يثير تساؤلات حول إمكانية التحرر الحقيقي.

   خامسا ؛ رمزية العزلة عبر الزمن والمكان

   يستخدم الزمن في النص بشكل غير خطي، حيث يعزز هذا الاستخدام الشعور بالضياع والعزلة الذي تعيشه الشخصيات. قد يتنقل الزمن بين الحاضر والماضي، مما يساهم في تعزيز التشوش الذهني والاضطراب النفسي الذي تعيشه الشخصيات. المكان، من جهته، يعدّ فضاء مغلقا يمثل العزلة عن العالم الخارجي، حيث تعكس الحدود التي تفرضها المصحة حالة الاختناق الاجتماعي والذهني الذي يعاني منه الأفراد.

   سادسا ؛ تداخل المتوالية و الفيلم :

   وقبل الانتقال لعنصر السخرية الطافح، لابد من الإشارة إلى مهم يتمثل في تداخل خيوط المتوالية القصصية مع نسيج فيلم "طيران فوق عش الوقواق" في أكثر من موضع، حيث تتشابه ظروف الشخصيات في كلا العملين. فدمى المصحة، شأنها شأن مرضى المستشفى النفسي في الفيلم، تعيش في حالة من القمع والخضوع لسلطة مؤسسية تحاول ترويضهم وتوحيدهم. شخصية الممثل "جاك نيكلسون" في الفيلم، مثلاً، تجسد روح التمرد والمقاومة ضد النظام القمعي، تماما كما تسعى بعض دمى الرافعي إلى التحرر من قيود المصحة.

 إن شخصية "نيكلسون"، باندفاعها وحماسها، تمثل قوة دافعة تثير البلبلة وتزعزع استقرار النظام. ولعلّ مشهد هروب الهندي الذي تمكن من كسر زجاج النافذة بالنافورة، يمثل لحظة فارقة في كلا العملين. فالهروب هنا ليس مجرد فعل مادي، بل هو رمز للتغلب على القيود النفسية والاجتماعية. إن شخصية الهندي، بصمتها الحكيم وقوتها الجسدية، تجسد النموذج المثالي للمتمرد الذي يتمكن من تحقيق حريته رغم كل الصعاب.

    سابعا ؛ الأسلوب والسخرية :

   يتسم الأسلوب في "مصحة الدمى" باستخدام السخرية والمفارقة ، كأدوات للتحدي والاحتجاج ضد مفاهيم السلطة والعلاج. كما يعتمد النص على الوصف التفصيلي للمشاهد، مما يعزز من قدرة القارئ على تصور المكان والزمان والمشاعر المرتبطة بهما. علاوة على ذلك، يتبع النص بنية غير تقليدية تعكس التحولات النفسية التي تمر بها الشخصيات، مما يزيد من عمق التجربة السردية ويعكس التشوش الذهني للفرد.

  ثامنا ؛ الرمزية والحرية :

  إن الدمى، في هذا السياق، لا تعتبر مجرد أدوات سردية، بل هي تمثل شخصيات تحاول إعادة تعريف نفسها وتحريرها من القيود. المصحة، من ناحيتها، تعمل كفضاء رمزي لآلية التحكم والسيطرة على الأفراد. تطرح قضية الحرية كهدف بعيد المنال في ظل القيود المفروضة، مما يعكس الاضطراب الذي يعيشه الأفراد في مواجهة الأنظمة الاجتماعية القمعية.

تاسعا ؛ القراءة النقدية والنظريات الاجتماعية :

   تتسق هذه المتوالية القصصية المتميزة و الحداثية مع العديد من الدراسات النقدية، التي تناولت مفهوم السيطرة الاجتماعية والرمزية. على سبيل المثال، يمكن الاستفادة من أعمال ميشيل فوكو، خصوصا في كتابه "المراقبة والمعاقبة"، إذ يناقش فيه كيف تتحول المؤسسات ، مثل السجون والمصحات إلى أدوات لفرض السيطرة والمراقبة على الأفراد، حيث لا تقتصر على تقديم العلاج أو التعليم بل تسهم في قمع الهوية الفردية واحتواء الأفراد ضمن نظام سلطوي.

    في "مصحة الدمى"، يتجسد هذا المفهوم من خلال الشخصيات التي تواجه ضغوطا نفسية واجتماعية في مصحة تحولت إلى أداة للهيمنة، حيث تعيش تحت رقابة مستمرة تعزز شعورها بالعزلة وتؤدي إلى خضوعها للسلطة. المعرفة الطبية والنفسية في المتوالية القصصية تمثل أداة يستخدمها الأطباء والمشرفون لتبرير سيطرتهم على الشخصيات، مما يتماشى مع أفكار فوكو حول الترابط بين السلطة والمعرفة. رغم ذلك، يظهر التمرد والمقاومة لدى الشخصيات التي تسعى لتحطيم القيود المفروضة عليها، مما يعكس دائما إمكانية وجود مقاومة ضد أي نظام قمعي، وهو ما يتوافق مع رؤية فوكو بأن كل علاقة سلطوية تخلق إمكانيات للتحرر.

  أما بول ريكور فيشير من خلال أعماله إلى أن الهوية تتشكل من خلال السرد، حيث يروي الأفراد تجاربهم لتوضيح مكانهم في العالم وفهم أنفسهم. في المتوالية القصصية "مصحة الدمى"، يظهر هذا التوتر بين الهوية والسرد من خلال الشخصيات التي تسعى لإعادة تعريف نفسها والتحرر من القيود المفروضة عليها.

   الدمى في العمل تجسد محاولات الشخصيات للتحرر من السرد القسري الذي يفرضه النظام القمعي في المصحة، محاولة خلق سرد شخصي يعكس تجربتها الفردية. المصحة تمثل فضاء يعكس هذا الصراع بين السرد القسري والسرد الشخصي، حيث تجبر الشخصيات على الخضوع لنمط معين من السرد، بينما تسعى جاهدة للتعبير عن هويتها الحقيقية والتحرر من القيود.

   السرد هنا يصبح أداة للمقاومة، مما يعكس أفكار ريكور حول قدرة السرد على تحرير الأفراد من القيود الاجتماعية والنفسية.

   في الختام، هناك تساؤلات حول الذات والتحرر.

 تعتبر "مصحة الدمى" نصا إبداعيا تخييليا يحمل نظرة نقديًة تسلط الضوء على التوترات بين الحرية والسلطة، حيث تقدّم المصحة كمثال على الأنظمة الاجتماعية القمعية التي تهدف إلى تصنيف الأفراد وتطبيعهم ضمن إطار موحد. العمل لا يطرح حلولا مباشرة بقدر ما يثير تساؤلات حول ماهية الذات والتحرر الحقيقي في عالم مليء بالقيود القاهرة .


مجلة فن السرد | قراءات ودراسات

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث