محوُ الظل
ــ المُهري:
يباغتني الحنين في كل حين فيُحزنني ويمزقني. ما أروعَ أن تتعذب في ذاتك، قبل صحبك وأهلك!
هزني هذا الهمسُ هزا، وعاودني عددا من المرات، حتى سرَت في جسمي رجفةٌ باردة، ثم تبوأ الحنينُ موضعا بين التباريح والقلب. آنذاك...
آنذاك حننتُ إلى الصحراء حنينَ الإبل للكلأ.. ما إن ضربتُ خيمتي بتخومها حتى سمعتُ مناديا يناديني باسمي: " يا محمد، أنا أبو مدين! ". فرددتُ مرتجفا من جزعٍ أو هلع: أطلقني اليومَ أو غدا.
ها هي الرجفةُ تسري في بدني باردة. وقتها، انتفضَت الخيمة انتفاضة قوية.
غشي عليَّ وأظلمت الدنيا في عيني. وإذا بنورٍ سطع، فجأة، بطلعته البهية. انتصب واقفا بجلباب أبيضَ، وأنا مقرفص أمام خيمتي، كأسير يترجى إطلاقَ سراحه، فحالَ حالي بيني وبين شيخي، وضاع مني الكلام، حين بادرني بالسؤال: " ما بغيتك؟".
لما عثرتُ على فمي قلتُ: إني أحبك في الله فأطلقني.
قال: فأطعْ من أحببتَني فيه.
قلتُ: مِن طاعتي له محبتي لمن أطاعه.
أطرق برأسه وتنهد بعمق، ثم خرج صوته شجيا، كأنه لشخصٍ آخر:
ــ إنك لن تطيقَ معي صبرا.
قلتُ: جربني.
تخللَت أنامله لحيته البيضاء، وشرد لحظة ثم همس في أذني: حسن. سأجربك بمهري أبلق. وآيتك ألا تكلمه ثلاث ليالٍ سويا.
زودنَي بحفنةِ تمر، وأوصاني بالحيوان رفقا وتوددا. وما إن هممتُ بفتحِ فمي حتى اختفى وانبثقَ أمامه مهري أبلق كأنه جبلٌ أبيض. لرؤيته فقدتُ قدرة النطق. في طاعة وخنوع أناخ حتى امتطيتُ صهوته، دون خوف أو جزع، فهمزتُ بطنه بقدمي، ثم انطلق كالسهم يحاكي الريح.
بعد يومين من الرفقة الصامتة و الضرب في الصحراء، أثارني تقلص جسده الذي بدا ضامرا في حجم غزالة، ثم ترجلتُ إشفاقا عليه. أسرعَ الخطى يرعى بين أشجار الطلح والسدر، ثم توغل عني كثيرا. قلتُ أتفيأ ظلَّ الشجيرات ريثما يكتنز بطنه بالشبع. أخذتني غفوةٌ فإذا بصوتٍ يناجيني: يا محمد! الحَقني، الحَقني الماء بلغ الإبطين... استيقظتُ مفزوعا وعاودتني الرعشة الباردة، وكان الظل قد جاوزني إلى الجهة الأخرى،وشفتاي تيبستا بالعطش. مررتُ عليهما ندفا من الوبر المبلل. تنبهتُ إلى المهري فلم أجده. طفتُ بين الشجيرات لعلي أقتفي أثره، لكن لا أثر يذكر سوى زحفِ الرمال الذي يمحو كلَّ أثر.
عدتُ خائبا تأكلني الحسرة والندم. دفنتُ رأسي بين ركبتي، أعتصرها متأسفا. فجأة سقط ظل فوق رأسي باردا كهبة نسيم، وإذا بيد تربتُ على كتفي: " لا تتحسر يا محمد ". كان صوتَ شيخي متحدثا بحنان. تنبهتُ إلى جلبابه الأبيض وقد تعفر بنقطٍ سوداء. رجوته بصوتٍ باك: لا يُشمت إلا ابن حلال.
هرش رأسه ثم اقتعد الأرض بجانبي: سأمنحك ثانية وثالثة فاغتنمهما. إن أفلحتَ أطلقتُك.
ــ الغزالة:
التفت خلفه ونادى: غزالة! فأتت مسرعة تترعرع بدمها ولحمها. ذاهلا متعجبا فركتُ عيني أكثرَ من مرة!
دنت الغزالة مني تتشمَّمني بخطمها. أزحتها عني جانبا. أعادت الكرة ففزعتُ منها. ضحك أبو مدين ضحكة كتومة: لا تجزع. ستألفها. نكستُ رأسي وقلت في سري: " كيف أرعى من هو أخف وأسرع من المهري؟ ليته ائتمنني على سحلية أو عظاية". زوى ما بين حاجبيه كأنه يقرأ سريرتي، وعقب على احتجاجي: تلك ليست هذه، وذي لا كتلك...
ـ آه يا شيخي الجليل!.. هربتُ من الشرور والغرور والادعاءات الزائفة والنظرات الزائغة لأواجه الخيال المفزع...
ـ يا بني، أنت في كف الله حيث الصفاء. هي الصحراء كفه. فيها ترعى أصفى مخلوقاته، وإنك المصطفى إن وُفقتَ في رعايتها. فقم واحرص على غزالك، حرصك على طاعته، قبل أن يحينَ ميقات محاق القمر.
وقفت على زوبعة رملية. حميت وجهي بعباءتي وتوسطتها، فاختلفت علي الطرق بالمشابهة وحيرتني. وبقيتُ واقفا بها لا بنفسي، فرأيت شيخي.. عانقته فأرشدني: هاهي فاحذر أن تفوتك.. إن تمت لك فزت.
انطلقت الغزالة أمامي في رشاقة وخفة، رغم بطنها المكتنز بالشبع، وأنا أسير خلفها كالتابع.
وكان كلما نال مني التعب والعياء، تباطأت في مشيتها أو توقفت منتظرةً وصولي...
دنوتُ منها فرأيت عينيها تنظران إلي، بهما ماءٌ لو اغتسلَت به روحي لتخلَّصت. وخلصتُ إلى معرفة غيبٍ ليس بمستطاعِها دونَه وصول.تنبهتُ إلى نفسي حتى عاودتني كلماتُ مرشدي الناهية: لا تفتنك، لا تغويك أنت حارسها وناظرها.. إن شهدتَ معها فزت.
تقدم الليل فانبطحت الغزالة على بطنها، بيني وبينها مسافة قدرَ الجهد الذي لا تختلط فيه أنفاسنا، ثم نزعتُ عني وسادتي واتخذتها وسادة ونمت... فرأيتُ في منامي شيخي يشطحُ جاذبا وسط حلقة من المريدين والمرددين، وهو يتمايل بجسده على إيقاع نقر الدفوف والصنوج، وعلى وجهه رُسمت علامة الوجوم.. بغتة صدرت من جوفه صرخة ممدودة وممطوطة، كزفير حيوان ذُبح غدرا. فزعا استيقظت والذعر يتملكني.. كان الوقت ضحى.. والغربان الناعقة تحوم فوق رأسي.. تقدمتُ خطوات ساعيا نحو مرقد الغزالة.. يا للهول !.. يا للفظاعة !.. انسحقتُ لرؤية رسغها وبقايا أحشائها.. أنت حارسها وناظرها.. أنت.. أنت.. أنت.. تتذرذر الكلمات في ذهني كبقايا رملٍ عالق بين أناملي.. أنت حارسها.. ها..ها..ها.
باغتني صوتُه الأجش: ــ والآن؟
نظرتُ إلى سواد جلبابه، وسواد الغربان الناعقة فوق رؤوسنا.
تمتمتُ في خجل وارتباك:
ــ آسفٌ يا شيخي.. أنا الذي أوجبُ لك على نفسي الطاعة إذا دعوتني، والائتمان إذا أمرتني، والتشرف إذا ناديتني والانتساب إليك إذا قبلتني.
ــ قبلتك وأحببتك ولكن... المهري ضللته، والغزالة أهملتها، والآن؟.. الآن لك ثالثة لا بعدها...
ــ محو الظل
أطلبُ لك خلَّة صديقين: واحدٌ ماذق وآخر صادق. تصافَ معهما ليلتين قبلَ محاقِ القمر وفُز.
ــ آهٍ يا شيخي!.. جهرتُ بالانشقاق وجنحتُ إلى الوحدة، فلو كانت نفسي خليلة لطلَّقتُها.
أوقَفني وقال لي:
ــ بعد سدلِ الحجب ومدِّ الظل، سِح في الأرض حتى تتبين لك الآثار...
هبَّ النسيم مع الإمساء والغلس، فوجدتُ نفسي ضاربا في أعماق المدى، فرأيتُ الكثبان كأنها أجسادٌ تتطهر في وهد الصحراء، وتبرَ الرمال الأصفر وزمردَ السماء يتحدان عند الأفق، ورخاءَ الرياح وزحفَ الرمال كأنهما يدان تمحوانِ عني أثرَ الظلِّ ومعالمَ الطريق.
فن السرد | محاكاة
إرسال تعليق
اترك تعليقك هنا
الرجاء تغيير موقع التعليقات في الإعدادات إلى مضمن