المبدعة مريم رمزي |
صقيع يجتاح الطرقات المُقفِرة.. برق يضوي منيرا الأزقةَ المظلمة..أطياف الضوء تتراقص في البيت، صوت الرعد يدوي في الأرجاء كأنه يعلن عن قيام حادثة أخرى، في هذا الحي الموحش أركانه، قطرات مطر تتسلل عبر ثقوب الأسطح لتبلل الأرض الخشبية، صفير الرياح القوي يوقظ سكان الحي الغريب .
أصوات غامضة تنبعث من الغرفة رقم 1 في الطابق العلوي؛ خطوات مسرعة، طرق في الأرض وصوت ضحك. استجمعت قوتي، واتجهت نحو الطابق العلوي لأجد نفسي أمام باب الغرفة، طرقت الباب مرتين، لم يُجب أحد، التفت لأعود أدراجي فإذ بالباب ينفتح ليخرج منه رجل أشعت الشعر، ذو جسد هزيل كأنه منحوت من عظام باهتة تحت جلد شاحب، عيناه غائرتان في وجهه، كأن الحياة غادرت بؤبؤيهما ولم يتبقّ سوى سواد بارد. رمقني بابتسامة غامضة، ثم قال: " احذر من الوجوه المبتسمة كثيرا، فقد تخفي وراءها خبثا عظيما " ، شعرت بقشعريرة، لكنني لم أعر كلامه اهتماما ،أعدت ترتيب أفكاري وأكملت طريقي إلى غرفتي.
قبل شهر....
حي يبدو كأنه هُجر لسنوات، بيوت متهالكة خالية من الأصوات والأنفاس، النوافد مغلقة كأنها جفون مسدلة، أتساءل عن الأشخاص الذين يعيشون هنا في غالب الأحيان مثل بيوتهم. فجأة تناهى إلى مسامعي صوت خطوات تقترب مني، التفت بحذر لأجد شخصا طويل القامة، أنيق الهندام ذو مظهر متناسق.
-يبدو أنك مستأجر جديد في هذا الحي. "أردف قائلا مع إبتسامة تضيء وجهه".
-نعم، وقد كنت أبحث عن بيت الدكتور خالد .
-نسيت أن أعرف نفسي، اسمي خالد كنت طبيبا، تقاعدت قبل سنتين، رغم ذلك مازال الناس يلقبونني بالدكتور خالد.
أضاف:
-سأرشدك إلى البيت، لنتبادل أطراف الحديث ونحن في الطريق.
سرنا لوقت قصير، وخلال هذه المدة كنت ألاحظ نظرات بعض السكان لي، وكانت ذات طابع مَهيب، بينما نظراتهم للدكتور خالد توحي باحترامهم الشديد له، لكن ما لفت انتباهي هو كلامه الذي لا يقل أناقة عن هندامه. لم يطل حديثنا لأننا وصلنا إلى البيت الذي كان يوجد خلف عمارتين فارهتين، وهذا يفسر عتمة المكان ورائحة الرطوبة الخانقة.
كان البيت مكونا من ثلاثة طوابق، الطابق السفلي يقطن فيه الدكتور خالد، بينما الطابق العلوي يمكث به أخوه المصاب بمرض عقلي، يجعله يقول أشياءً لا وجود لها، بسبب حادثة تعرض لها في صغره.
قبل أن أذهب إلى غرفتي، أوقفني الدكتور خالد ليخبرني عن قوانين السكن وهي كالآتي:
-لا تقترب من الغرفة رقم 1.
-لا تأتي إلى غرفتي ليلا.
-لا تتحدث مع أخي.
لم أسأله عن سبب هذه القوانين، أومأت برأسي موافقا رغم غرابتها، وذهبت إلى غرفتي لأغط في سبات عميق بعد مشقة هذا اليوم.
استيقظت صباحا على أخبار تقشعر لها الأبدان ؛ وسط زقاق مهجور في هذا الحي تتراكم فيه الظلال كأنها أشباح حية، وُجدت جثة ممددة على الأرض الصلبة، الوجه مسود وعيناه جاحظتان من الرعب الذي تلبس آخر لحظاته. لكن المشهد الأكثر إثارة للرعب كان الفك العلوي، الذي بدا وكأنه عانى من عذاب لا يوصف. كانت الأسنان منزوعة بعنف، تاركة تجاويف داكنة حيث كان ينبغي أن تكون الإبتسامة. القاتل لم يكتف بإنهاء الحياة، بل ترك بصمته الوحشية على الضحية وكأن الهدف كان انتزاع ليس فقط الحياة، بل الكرامة والإنسانية من هذا الجسد.
قاطع صوت التلفاز صوت آخر يأتي من الطابق السفلي، نزلت لألقي نظرة فوجدت الدكتور خالد بغرفته يصلح صندوقا أسود يشبه صناديق الأساور ، لكن الغريب في الأمر أنني لم أر الدكتور خالد يضع إسورة من قبل، وسرعان ما قاطع تفكيري بقوله:
-لماذا تبدو شارد الذهن؟
-ماذا ؟؟ لا ، فقط كنت أفكر في الجريمة التي وقعت، كيف يمكن لإنسان أن يفعل هذا بأخيه الإنسان؟
-فعلا شيء مخيف فقد فعل هذا حتى بضحاياه سابقا، لكن لا تقلق، هذه المرة ترك دليلا وراءه.
-دليل ؟؟
-نعم، آثار حذاء، لذلك ستعثر الشرطة عليه قريبا.
خرج الدكتور خالد من غرفته ووضع مطرقته جانبا ثم أخبرني أنه سيذهب ليشتري بعض الأغراض وقد يتأخر في العودة. لم أهتم لما قاله؛ فقد كان كل تفكيري منصبا على كيفية علمه بأمر الدليل، فقد أبقيناه سريا!!
مجلة فن السرد | مشاتل
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا