قصة: لوحة
هيثم
همامون/ المغرب
علقت لوحة محرمة على جدار المعرض تحمل
نكهة رطوبة دافئة، وكنت لحظتذاك واقفا وابنتي قبالة مشهد درامي مرَوّع. وقطع
أفكاري دخول شاب يرتجف حاملا السلاح، صارخا: لا حركة...في تلك اللحظة المرعبة ضممت
ابنتي إلي ّبعد أن أحسست بأسنانها تصطك من شدة
الخوف كأصوات الصحون، والدموع تسيل في قاع بؤبؤها الأسود البعيد...آنذاك مالت
الحاسة السادسة هامسة بأذني، لقد احتل المعرض ...البعض يمضغ دموع مأساة والآخر
يخفي في أعماقه قلقا له جذور سوداء كالشمس تذيب صمود الرجال والنساء.
يمم الملثّم شطر عجوز يرتجف ارتجاف
الموج، فحشرج العجوز بكلمات غير مفهومة بروح فكاهة تخفي في أعماقه قلقا. أسكته
المحتل معترضا: أخرج ما عندك...قاء العجوز ما في جعبته من دريهمات ثم جلس القرفصاء
يندب حظه. في تلك اللحظة، سمعنا طلقات متقطعة ...بندقية من طراز قديم، مشطها يتسع
لتسع طلقات، وتبدو مجروحة وصدئة تماما...آه تذكرت، لا تسألوني أين عرفت؟ لا
أذكر...المهم، صرخ أحدهم الشهيد يصلي. احتوتنا ساعتذاك عتمة تبسط كفها لمصير
مجهول.
تكلمت البراءة قائلة: أبي...أبي، ألم
تقل إن الرصاص يطلق على الوحوش؟ تساقطت كلماتها في رأسي كلوح زجاجي ما لبث أن انكسر، تمالكت نفسي فنهرتها خوفا
عليها...صه...صه. صار المقنع أمامي على بعد أربعة أو خمسة أمتار ممتعضا: وسعوا
الطريق.
تلاقت العيون وتكالبت الكلمات كالعلق،
لم يتحرك أحد قيد أنملة فالخوف أكل ركب الناس، وأصبحنا أقرب من الموت منا إلى
الحياة. لم يقرر المصير بعد، ربما قد ذاب الإصرار الذي يحمله على القتل! وكأني تحت
سطح شمس غشت المحرقة فاذا بنسيم أشجار زيتون الضفة الغربية صامدا بجذوره الحرة
الوتدية، تقاوم وتعطي نكهة الحياة حين يكون الموت في الجوار، وهي التي تعني الحياة
كلها حين تعني الأشياء كلها الموت...آه، لا قيمة للحياة إن لم تكن، دائما واقفا قبالة الموت مستعدا.
ارتج المعرض ارتجاجا بأنفاس الحشود
الساخنة، مأسورين بلا سياط أو سلاسل أو قيود أو عصا...تقتلهم الأحلام إن لم يتحملوها، فأيام الشقاوة هرستها عجلة الزمن بلا رحمة
أو شفقة.
مسد المقنع لحيته ضاحكا بهستيرية ككلب
مسعور: من التالي؟ صمت الجميع وأدركوا أن المكسب أقل من الخسارة.
فجأة، لمحت شابا مندفعا كصياد، فقد قرر قراره ...لكن القضية شبه مستحيلة، أي حماقة قد تسبب له نهاية عاجلة على يدي الملثم...فالأخير وقف وقفة لا يحسد عليها أبدا...غير قادر على استيعاب ما جرى، فقبيل التشابك صوب بندقيته اتجاه الشاب المسكين ونظر إليه مباشرة في عينيه، و خيل إليه أن صوتا خفيضا قد رجف وراء ظهره، فأطلق طلقات عشواء، نهبت إحداها جسدي بلا رحمة والأخرى أسقطت لوحة ثقيلة كالأوطار...وانتزع الشاب النبيل البندقية منه بالقوة وهو يلهث: تجربتك فشلت هذه المرة، هذه أرخص سلعة على الأرض و الجميع يمتلكونها...ثم سمعت صدى ابنتي تبكي ...الشهيد يصلي لكن لوحة القدس بقيت سليمة.
فن السرد I مسابقات
إرسال تعليق
اترك تعليقك هنا
الرجاء تغيير موقع التعليقات في الإعدادات إلى مضمن