سردياتٌ بأقنعةٍ متعدّدةٍ | رشيد الخديري

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: آخر تحديث: وقت القراءة:
للقراءة
عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق
نبذة عن المقال: إن الوعي بالكتابة ضروريّ لتطوير الأدب، فالأديب سواء أكان شاعراً أو روائياً أو قاصاً، فإنه يُقدّم إشارات تُساعد على فهم عمله وتأويله

 

فن السرد سرديات

     تبرز أهميّة الرواية المغربية، من خلال إحالاتها على التاريخي والواقعي والوطني والسياسي والاجتماعي والعرفاني، وهو أمر يدعو إلى التّأمل والتّفاعل، حتّى تصل إلى المكانة التي تستحقها. ومعلوم، أن السرد الروائي بالمغرب، وهو يَتَحَقّقُ ويتبلور في شكله المتعدد، يراهن على بلوغ الوعي بخصوصياته، وما ينطوي عليه من جماليات خلاقة، خصوصاً أنه، قد تَحَقَّقَ (ما يكفي) من تراكم حتى صار بالإمكان نقدها ومقاربتها، وهذا التّحقق يكشف عن ملاحظتين مهمتين: أما الأولى، فَتَتَمَثّلُ في ازدياد الوعي بالكتابة السردية الروائية، وما يؤكد هذا المعطى، هو توجّه عدد من الشعراء والنقاد المغاربة نحو الكتابة الروائية، والثانية، فهي تتعلّق بالانفتاح على أشكال روائية أخرى، فلم يعد الأمر محصوراً في كتابات بعينها، وهو ما يُبرّره ظهور جيل جديد من الروائيين أخذوا على عاتقهم إعادة التفكير في السرد الروائي وما يطرحه من قضايا وجماليات.

   إن الوعي بالكتابة ضروريّ لتطوير الأدب، فالأديب سواء أكان شاعراً أو روائياً أو قاصاً، فإنه يُقدّم إشارات تُساعد على فهم عمله وتأويله، "بحكم أن كل مبدع ناقد لعمله قبل تحقق التلقي النقدي الموضوعي"(1)، والروائي إذ يكتب ويَتَخَيّل ويُفَكّر، فإن في الآن ذاته، يَتَمَدّد في عمله، مُعلّقاً أو شارحاً أو مُنَظّراً نقدياً، فإن لعبة التّماهي مع السرد، قد تُحوّلُ الروائي إلى ناقد، ولذلك، فإن الحديث عن الأدب بمعزل عن النقد، هو حديث لا يخدم الإبداع، ومكرمةً أن يُزاوج المبدع بين الأدب والنقد، ففي ذلك، إثراء لتجربته الإبداعية. في هذا السياق، يُمكننا الحديث عن سرد برهانات متعددة، يأتي حاملاً بين ثناياه أسئلته التّجديدية، ولا نبالغ في القول، إن السرد الروائي في المغرب، قد بدأ يشقُّ طريقه نحو إثبات الذات، بعد أن قليل الحضور في الساحة الأدبية والثقافية، قياساً بحضور الشعر والقصة، كما أن التّجارب الروائية التي يكتبها روائيون جدد، مُلهمةً ومنفتحة على تيّارات سردية أخرى. غير أن هذا الرأي الذي يشير إلى تطور السرد الروائي في المغرب وتفرده، يأتي مخالفاً لما يؤكده الروائي المغربي عبد الكريم الجويطي حين قال: "لم نستطع أن نخلق نصوصا قوية تضاهي تجارب روائية أخرى"(2)، ويضيف بالقول :"ولا أعتقد أنها ستتمكن من ذلك في القريب. هناك في نظري العديد من التحديات الزائفة التي ترهن المقدرة الإبداعية للروائي المغربي. أذكر منها على سبيل المثال رغبته في كتابة رواية تحوي كل بهرج النقد الحديث، رواية يجد فيها ناقدها المفترض بضاعته جاهزة متبرجة"(3).

      ونعتقد أن السرد الروائي فن قابل للتطور في المغرب، وليس من العيب في شيء، أن تكون الرواية المغربية في ملتقى هبّات ما يُنتج في العالم من سرديات، تلبيةً لحاجات شكليّة ومضمونية، وكذلك استجابة لمتغيّرات العالم وتحوّلاته، إلى جانب إثراء تصوراتها وأفكارها، وهو الأمر الذي عبّر عنه الروائي المصري إدوار الخراط حين قال :"فإذا كانت للرواية المصرية تاريخ ريادي طويل وإنجازات معاصرة مرموقة، فإن الرواية المغربية في خلال عقود ثلاثة أو أربعة فقط. قد وصلت إلى مرحلة النضج والانجاز الطليعي لها قدرها الكبير، فلعل ذلك يعود من بين أسباب كثيرة أخرى منها، روائع الفن التي لا تفضي أسرارها إلى خصائص المغرب باعتباره بلد الملتقى، حيث تتبادل التأثير تيارات وافدة من الشرق ومن أوربا معا. وباعتباره أيضا بلدا تتواجد فيه ثقافات متنوعة سليفة ومعاصرة، قبلية وقومية، شعبية ونخبوية، تلك ساحة خصبة لفن الرواية الصعب والمطواع معا، الغني والواسع الإحاطة معا"(4)، وبين رأي عبد الكريم الجويطي وإدوار الخراط، يَتَمدَّدُ الوعي لدى كُتَّاب الرواية، من منطلق صوغها لأسئلة آنية، مستشرفةً أفقها الكتابي التّخييلي بمزيد من الانفتاح على شتى العلوم الإنسانية، بل هناك من نادى بضرورة انفتاح الروائي على مجالات أخرى، وهو ما تَنَبَّهَ إليه الناقد عبد الفتاح عثمان بقوله :"لا يكفي أن يكون عالم نفس. يجب عليه أن يكون مؤرخا، وعالم اجتماع. وأن يستعمل في حديثه اكتشافات العلوم الطبيعية، والتجريبية، والطب، والقانون، ومعرفة المهن"(5)، فالروائي المجدّد "هو الذي يبصرنا بالحقيقة الخافية والباعث المكنون فيرينا من أنفسنا ما نسر ويصارحنا من أمرنا ما نكتم، فإن لم يفعل ذلك فهو أقرب إلى أن يكون صاحب عظات طنانة تهتز لها المنابر والمنصات فيصفق لها السامعون ما شاءوا أن يصفقوا وقلوبهم في شغل بما يضطرم فيها"(6)، وما دامت الرواية بهذه الخصوصيّة، فإنها مدعوة أكثر إلى الخروج من مناطق الصمت والركون والحرص على تجريب كل الطرق الممكنة، لأن في ذلك، إثراء للإنتاج الروائي وتخصيبه، ويجعل منها ذاك الجنس الأدبي القادر على تغيير مصير الإنسان والعالم، لكن، مع ضرورة الانتباه والأخذ بعين الاعتبار أن "التجريب لا يعني الخروج عن المألوف بطريقة اعتباطية ولا اقتباس وصفات وأشكال جربها آخرون في سياق مغاير"(7). بهذا المعنى، فإن عملية التّجريب في الكتابة الروائية، لا بد أن تراعي الخصوصية المغربية وألا تنجرّ وراء المحاكاة الاستنساخية أو وهم الموضة والتغيير من أجل التغيير، والمهم في كل ذلك، أن نحافظ على هذه الخصوصية، باعتبارها إحالة على الهوية والذات والإنسان المغربي، "وعليه، لا يكفي الاتصال بالنصوص الكونية لإنتاج رواية على منوالها، بل يتطلب الأمر تمثيلا واستيعابا وفهما للسياق بأبعاده المتعددة، حتى تغدو التجربة الإبداعية الكونية جزءا من النسيج الثقافي والاجتماعي والهوية الأصيلة"(8)، فالأدب بشكل عام، هو الشيء الوحيد المتبقي في العالم الذي يمكن أن نلجأ إليه حينما نشعر بالقلق والانهيار والخوف، وحين "نشعر بأننا نتعرض للموت الكامل"(9)، وهذا طبيعي، فالأدب أضحى مرادفاً للحياة، والرواية بوجه خاص تعني التّحرر والانفلات من وهم المادة والانطلاق إلى فضاء التخييل واللغة والمسرّات.

  إن السرد الروائي في المغرب مفعم بالتّحولات والرهانات، فهو لا يكف عن تحديث آليات اشتغاله، منفتحاً على أصوات الرواية في العالم الغربي، وما يُنتج في الشرق، على أساس استثمار المكتسبات التي تحققت في الآونة الأخيرة، والتّعرف على جديد السرديات في العالم، فكل ما يجري من تبدّل في الخطاب الروائي إبداعا ونقدا، يدخل ضمنيا في صلب اهتمامات الروائيين المغاربة، ولا غرو، أن نجد الكثير من الأعمال الروائية التي صدرت في العشرية الأخيرة ممهورة برياح التغيير والتجديد في كل جوانبها. إن ما يمكن استخلاصه من مسار الرواية المغربية هو أنها بدأت تُشَكّلُ (هويتها السردية) بتعبير بول ريكور، فهي ملتقى للعديد من المعارف والممارسات، ومن ثم، فـ"أن الهوية السردية تُجسد مقام التقاطع بين المتنافرات، أو بين عناصر مختلفة تحدد كينونة الإنسان، الذاكرة، المخيلة، التاريخ، الهوية العينية والهوية الذاتية (...) إن الهوية السردية تعتبر الكيفية التي تمكن الإنسان من توسط الوظيفة السردية التي تؤول إلى ضروب البناء الثقافي، وأنماط الحكي المرتبطة بكل جماعة بشرية(10). من هذا المنطلق، فإن الهوية الإبداعية تَتَشَكّلُ من الذات الكاتبة، وفي التّحققات النّصيّة كيفما كان جنسها الأدبي، وهذه الهوية لا يُمكن فصلها تحقيقها في العابر والجزئي، بل في مجهول الإبداع بصفة عامة، والمؤكد أنها تُعبّرُ عن وعي بالكتابة، وفي ممارسات نصيـّة، شعرا أو نثرا، فهي دائما وأبدا في مرتبطة بالقول السامي، وفي الوجود الإنساني، باعتباره المسؤول عن الإبداع. هي ذي بوجه عام، بعض المسرات التي يهبها الإبداع للإنسان، مسرات ما انفك السرد الروائي يرسمها في دروب اللغة والمتخيل والمعنى والمسرود، وفي كل العناصر التي تتشكل منها الرواية، وتأسيساً على كل ما سبق، يُمكننا القول، إن السرد الروائي في المغرب يأخذ أشكالاً وألواناً، ويُعبّر عن تحولات سياسية وثقافية واجتماعية وفكرية، ولا شك أن الرواية، وهي تتوغل في دروب التّجريب، ظلت مشدوهة إلى دينامية الاختلاف وواقعة في صميم التجربة الإنسانية، وهي في هذا الجانب، تبدو أكثر الأجناس الأدبية قدرة على الإنصات الجيد لنبض الإنسان، في مسعى إلى تتبع تتالي الإشكاليات وما يعيشه النص الروائي من تبدل في مسارات الحكي وعوالم الإدهاش، فعمل الروائي لا يكمن في توجيه القارئ فحسب، وإنما في إدهاشه و"تحفيزه على البحث والمساءلة"(11)، وبين وعي الكتابة ووعي القراءة، باعتبارهما وعيا مركبا، يَتَشَكَّلُ الأفق المنشود في التّحليل والنقد والتّأويل، فإنه يتعذر تحقق تلك القراءة، ما لم يتم فهم علاقة النص الروائي بالعالم وإدراكه.

هوامش الدراسة:

(1) صدوق نور الدين: ضمن مقال: محمد الأشعري، من القصيدة إلى الرواية، عدد خاص من مجلة البيت (39)، خريف 2021، منشورات بيت الشعر في المغرب، 2021، ص: 386.

(2) عبد الكريم الجويطي: ضمن كتاب: سؤال الحداثة في الرواية المغربية، عبد الرحيم العلام، أفريقيا الشرق، 1999، ص: 66.

(3) المرجع السابق، ص: 66.

(4) إدوار الخراط: ضمن كلمة افتتاح: ملتقى الرواية المصرية المغربية الثاني، سلسلة أبحاث المؤتمرات الرابع، المجلس الأعلى للثقافة، فبراير، 2000، ص: 14.

(5) عبد الفتاح عثمان: بناء الرواية، دراسة في الرواية المصرية، د. ت/ د. ط، مكتبة الشباب، ص: 108.

(6) أحمد المديني: أسئلة الإبداع في الأدب العربي المعاصر، دار الطليعة، فبراير، 1985، بيروت، ص: 75.

(7) أحمد سويد: القصة القصيرة سلاح نضالي، مجلة الوحدة، العددان، 58/ 59، يوليوز- غشت، 1989، ص: 72. للاستزادة: أنظر إلى الدراسة التي قام بها كل من: عبد الرحيم العلام ومحمد قاسمي في بيبلوغرافية الرواية المغربية.

(8) إدريس الخضراوي: الكتابة النقدية عند محمد برادة، المرجعية والخطاب، مرجع سابق، ص: 320.

(9) أوكتافيو بات: العلم الثقافي، العدد 885، السنة 17/ 26 دجنبر 1987، ص: 8.

(10) عبد الرحيم برواكي: وظيفة الذاكرة في تثبيت عمل السرد عند بول ريكور، ضمن كتاب جماعي: الذاكرة والبناء الثقافي، أشغال المؤتمر الدولي السنوي لمؤسسة مقاربات، الجزء الثاني، تنسيق: جمال بوطيب وأحمد شراك، مقاربات للنشر والصناعات الثقافية، فاس، المغرب، 2019، ص: 243.

 (11) والتر كوفمان: التراجيديا والفلسفة، ترجمة: كامل يوسف حسين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1993، ص: 58.

فن السرد | قراءات ودراسات


التصنيفات

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك تعليقك هنا

ليست هناك تعليقات
2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث