الكاتبة المبدعة لطيفة محمد حسيب القاضي |
في
الثالث من شهر يناير عبست الشمس المطلة على المدينة.
كانت الساعة الرابعة وزبائن المقهى يجلسون في بهو
الطريق. الرياح قاسية ببرودتها. تدور
السحب ملفعة بالضباب كاملة من زخات المطر وندف الثلج. حتى أن الناظر لا يعرف هل
يسقط الثلج من السماء أم يصعد من الأرض.
ثمة شيء غريب بالرغم من وجود الرياح القاسية، إلا أن لا أحد من زبائن المقهى يجرؤ على مغادرة هذا
المكان.
أجلس وحدي
ارتشف فنجان القهوة وأتأمل الجالسين في المقهى وأفكر.
نظري وقع على الطاولة المجاورة لي، فرأيت عاشقين
مشغولين بهيامهما المتقد. ظلت قطرات المطر تتساقط مما أضاف إلى الجو رومانسية
وسحرية. تتلامس أنظارهما ويتبادلان ابتسامات مشتركة تعكس حميمية وتعلق كلاهما
ببعض. يحدقان من النافذة في قطرات المطر وهي تتلاشى بلطف على الزجاج. وفي تلك
اللحظة تحول المقهى إلى ملاذ رومانسي، وبينما كانا يتحدثان زادت حدة الأمطار،
وتحولت الرياح إلى عاصفة، لكنهما لم يكترتا بالمطر المتواصل خارج المقهىّ؛
فقلباهما كانا يتدفآن بالعاطفة. لم يهتما سوى بتلك اللحظة الساحرة وسط نسيم المطر
وترانيم الموسيقى الهادئة وشرارة العشق. وإذ فجأةً يأتي شخص مسرعاً نحوهما ليصرخ
أمام العاشقين بكلمات غير مفهومة شدت انتباههما وانتباه باقي الزبائن.
قال زبون: - ماذا حدث؟ اخفض من صوتك.
وقال آخر :ما هذا الصراخ؟
يبدو أنه كان يلوم العاشقين.
طلب العاشق الفاتورة من النادل سريعاَ، ودفع الحساب
وخرجا فوراً من المقهى بلا مبالاة بهذا الرجل وكأنه مجرد تمثال.
عم الهدوء المقهى قليلاً.
تغير الجو وتلاشت الأمطار وأشرقت الشمس بنورها، ولكن
المقهى ما يزال مكتظا بالزبائن الموزعين في جميع الطاولات.
يأتي غسق السماء، وتشير الساعة إلى التاسعة مساءً.
دلفت إلى المقهى امرأة جميلة أسرت الأنظار فور دخولها؛
امرأة تتميز بملامحها الرقيقة، وجاذبيتها الطبيعية. طويلة وشعرها منساب أشقر وأملس
يتدلى بأناقة على كتفيها.. ترتدي فستاناً أنيقاً يتدرج لونه بين الأزرق الداكن
والأسود معززا جمالها الطبيعي. كانت تحمل معها أوراقَا متناثرة، وكأنها كانت حاملة
لأعمال فنية مثيرة..
كانت تبدي روحا مبدعة.
جلست الفتاة الجميلة إلى أحد الكراسي، وشرعت تنظر إلى
الأوراق وتتفحصها باندهاش وتركيز. كانت تبدو وكأنها في عالم من الأفكار وتعابير
وجهها تنذر بتوتر خفي، وسعادة وحماس في عينيها في الوقت نفسه.
عندما تقدم منها النادل لتقديم قائمة الطعام لم تعره
اهتماما، وظلت غارقة في عالمها الخاص. كان زبائن المقهى يلتفتون حولها بفضول
لمعرفة ما تحمله تلك الأوراق. وبعد لحظات انهمرت في الكتابة على الأوراق.
كان في الجهة الأخرى من المقهى مجموعة من الشباب
يرتدون ملابس فاخرة وأنيقة، ذات ألوان هادئة وملفتة. أحدهم يرتدي بنطلون بني دافئ
وسترة سوداء، أسود الشعر حاد الملامح. والآخر يرتدي بنطلون أزرق وسترة بيضاء يبدو
بملامحة هادئة. والثالث يرتدي جلابية
بيضاء مثل بياض الثلج وساعة أنيقة تعتلي رأسه قبعة حمراء. على طاولة الشباب مجموعة
من الكتب مفتوحة يتناقشون مع بعضهم البعض. تحول المكان إلى مسرح صغير يتحدث فيه
الأدباء بعاطفة وإلقاء وتبادل الآراء.
كانت الهمسات والضحكات الزكية تملأ المكان وتتعانق مع
الكلمات والأفكار. وكانوا هم يستمعون بشغف مع احتساء القهوة.
احتضنتهم أجواء المقهى الدافئة والمنعشة وشهدت جدران
المقهى حكاياتهم.
وعندما نظرت أمامي رأيت رجلَا يجلس وحيداً يرتشف قهوته،
وكأن هموم الحياة كلها حطت على رأسه. لون بشرته سمراء وشفتاه غليظتان. شعره أسود
مجعد. يرتدي قميصًا أرجوانيًا وحذاء أبيض رياضيً، رأيته جالسا في حالة شرود وتفكير
عميق وكأنه جبال الألب، يبدو إنه وقع في فخ الذاكرة.. يا ترى بماذا يفكر هذا
الرجل؟
وفي الجهة الأخرى، أرى رجلاً يرتدي بدلة سوداء اللون
وقميصا أبيض وربطة عنق. يبدو في عمر الخمسين، يحتسي قهوته بشغف. تجلس بجواره فتاة
في سن العشرين.. يتشابهان في الملامح.. يبدو أنها ابنته. كانت ترتدي فستاناً
مليئَا بالترتر وتحمل حقيبة صغيرة ذهبية. بدت عيناها متألقتين وابتسامتها تنشر
السعادة في كل مكان.
ابتسم الرجل بشيء من الحنان في عينيه وأمسك بيدها وبدأ
الحديث يدور بينهما بلطف وحب ينبع من عيني الرجل.
كانت الأصوات تتلاشى من حولهما ويحل محلها النصح
والمحبة.
أشارت الساعة إلى وقت متأخر من الليل. كانت الأجواء
هادئة والمقهى كان ساكنا . حينها اجتاحني حنين وذكريات لذلك المقهى عندما كنت
أرتاده مع زوجي الذي توفى إثر حادث سيارة مروع منذ عشرين عاما.
كان الحب والعشق مبتغانا.. حالة اتفاق بين زوجين لم
يسبق لها مثيل .ولكن كل الأشياء الجميلة تمضي سريعَا وتتحول إلى ذكريات .
لم أحبه لحاجتي للحب ولسد فراغات أيامي. لم أحبه لأنني
وحيدة وأريد ظلاً أستظل به بل أحببته، لأنه الشخص الذي أشعر معه بالأمان، لأن
الخوف في حضرته يتلاشى كأنه لم يكن. وبعده اعتزلت الحب والحياة. لقد وقعت في فخ الذكريات
التي لا تنتهي. هدوء تام....
لم يكن سوى عددٍ قليلٍ من زبائن المقهى يستمتعون
بمشروباتهم. بينما كنت أسترق السمع للأصوات المتلاشية في الطاولات المجاورة. رأيت
شخصاً مذعوراً يدخل المقهى. كانت ملامح وجهه تعكس قلقاً ورعبَا عميقَا.
اقترب ذلك الشخص بسرعة متنامية على غرة من الكاشير. لم
يكن لديه ثمة إحساس بالحياة، وقال بصوت مرتفع: أرجو مساعدتي.. هناك شخص يطاردني.
صدمت الكلمات أذني وتجمدت في مكاني لأراقب الوضع
المتوتر.
لقد تبدلت تعابير وجهي من الهدوء إلى الخوف والقلق.
بدأ زبائن المقهى يقفزون من أماكنهم خوفا وقلقا مما يحدث. البعض يبحث عن مخرج
للهروب والبعض الآخر هب ليساعد ذلك الشخص الخائف. كانت حالة الذعر هي المسيطرة في
ذلك الوقت.
اشتعل الفتيل الأول في داخلي وقررت أن أساعد الرجل مع
الزبائن.. اقتربت منه وقلت له بهدوء: ماذا حدث؟ فقال: يوجد شخص مسلح يطاردني..
الرجل الواقف على الكاشير فورا اتصل بالشرطة للإبلاغ عن الشخص المسلح.
قلت للرجل المذعور: تعال امسك بيدي لكي نجد طريقا
للخروج من المقهى.. وفي الحال تعالت أصوات الشرطة وهتافات الدعم القادم من بعيد.
توجهوا إلى المقهى لتقديم المساعدة. تبين
بأن الشخص المسلح هو مجرد هارب من العدالة ويحاول الاختباء وتجنب القبض عليه. لكن
بفضل تعاون الجميع، تمكنت الشرطة من القبض عليه وإعادة الأمان للمنطقة.
رجعت إلى مكاني في المقهى وأدركت من ذلك بأنه ما يزال
لدي رغبة في النظر للحياة بشكل آخر.
مجلة فن السرد/ محاكاة
إرسال تعليق