اعتدلت في جلستي، بيدي قلمي الأسود وورقة الاختبار. عجزت عن الكتابة وأصابعي أصابها الخدر. ضاعت مني الكلمات، أفكاري حلقت بعيدا كسرب حمام زاجل، لا أدري إلى أين يحمل كل رسائلي التي لم تكتب بعد. تغيبت دوما عن الحصص فانتقم مني المكان بأن غيب عني كل ما قيل فيه.
تناثرت الأحرف في ذهني محدثة فوضى عارمة، كأنها ميدان لسباق الخيل، تملؤه الحواجز ويعلوه الغبار الكثيف. الأمل الذي جئت به تبعثرت حروفه فصار ألما. تائهة أنا، كأني وسط صحراء نيفادا!
لم أذعن أبدا، فما رفعت يوما راية بيضاء في هكذا مواقف.
حاولت ترتيب أبجديتي من جديد، علها تسعفني لنؤثث سويا هذه الورقة البكر. أعدت قراءة الأسئلة مرات ومرات، كان جلها عن الذاكرة، وهنا يكمن البلاء الأعظم!
ماذا سأكتب؟! هل علي القول مثلا إن ذاكرتي اللعينة سافلة حقيرة، لا تحتفظ إلا بالقليل من المعلومات، التي لن تملأ ورقتي ولن تروي عطش مصححها؟!
ماذا كان سيحدث لو طلب منا عوض ذلك مثلا، أن نستحضر أحداثا ووقائع أهملناها وطويت في سجل النسيان؟ أما كان هذا ليحيي الذاكرة وينعشها أكثر؟
أبيت إلا أن أترك بصمتي على بياض الورقة، من يدري؟ لعله آخر يوم لي تحت سقف هذه القاعة الفسيحة. أزحت نظري عن موضوع الذاكرة، واكتفيت بترجمة نص مقترح في سؤال آخر. تصرفت كطفلة صغيرة وضعوا أمامها أصنافا كثيرة من الخضروات والفواكه لكنها فضلت الحلوى.
كانت خطيئتي يومها أنني صادفت أستاذي قبل بداية الاختبار، ولم أتجرأ على إخباره أنني أستوعب كثيرا ما أسمعه من محاضراته الصوتية، بل كنت شغوفة بكل ما قدمه لنا طيلة الفصول الستة، ومع ذلك فذاكرتي لا تحتفظ بالكثير...أكتفي دوما بالفهم وأتمرد حين الاسترجاع.
سلمت ورقتي في النهاية، وقعت بعدها بطاقة إقصائي من ماستر سيكولوجيا الشيخوخة، سقطت السيكولوجيا وبقيت أمامي الشيخوخة فقط. في هذا الحدث تحديدا، كانت ذاكرتي حليفتي، لأنها سجلت أدق التفاصيل. أراها منافقة خبيثة، وربما أصابها الفصام.
لا علي، فذاكرتي الآن تلميذتي، أعكف على تدريسها وتدريبها، ولي اليقين أنها ستنضج يوما ما.
مجلة فن السرد| مشاتل
إرسال تعليق