المبدع عبد المالك حسنيوي |
في ذلك القسم الجميل، الذي يبدو فيه كل شيء منضّد، وقد رصفت مقاعده مثل القلائد في نحور الحور، أجلس كعادتي في المقعد الأمامي، أمسك القلم، أقلبه بين أصابعي، قبل أن أبدأ الكتابة. بعد برهة، يصبح هذا القلم غير قادر على الكتابة، يحدث هذا لأول مرة! إنه قلم ليس كالأقلام العادية ..
حكايتي معه، بدأت في أيام الصبا، أتذكر حينها الحوار الذي دار بيني وبين صديقي، " مصطفى " اسمه اسم على مسمى، عرفته في إحدى القرى بجبال الأطلس المتوسط، كان يكبرني سنا، ويفضلني علما، كنت في كل مرة ألتقيه أحاول صيد ما يمكن أن تحمله شبكتي من أدب مرصع وحديث مسجع، وقطف ثماره الناضجة التي رقت قشرتها حتى غدت شرابا جاهزا قبل أوانه، وغرف مياهه العذبة الزلال من نبع الحنان والحب..
ما زلت أتذكر نصائحه المتهادية، وكلماته النابعة من أعماق الفؤاد.
قال لي بصوت فيه نسمات الورد، تتقطر- تتمايل كأوراق الشجر المحملة بالندى، التي تسحبها نحو الأسفل ، وتأخذها يمينا ويسارا ريح الصبا:
-أتود أن أسمعك بعض القصص القصيرة؟
أجبته بلهفة شديدة، تشبه لهفة الرضيع الوديع على ثدي أمه، أو لهفة العطشان في الصحراء القاحلة : نعم، أود ذلك..
كنت أصغي له بأذن مرهفة، وأنصت لتلك الكلمات العذبة، مثل جدول مياهه لا تنضب، أو بئر عميقة لا ترى قاعها، أفهم بعضها ولا أفهم البعض الآخر.
سألته بعدها:
- من أين لك كل هذا الكلام الجميل؟
فقال لي:
-إنها مأخوذة من كتاب يجمع قصصا قصيرة كتبها في شرخ الشباب، يجمع بين دفتيه كنوزا ثمينة، ودررا دفينة.
وأردف قائلا:
- أتُريد أن أمنحك إياه كهدية، تتذكرني بها في الأيام الخوالي...
شعرت حينها بأن الدنيا لا تسعني من الفرحة، فأحسن الهدايا بالنسبة لي " كتاب "، ثم قلتُ له:
- إنّه لمن دواعي سروري، صديقي العزيز.
ردّ قائلا: إنه كتاب قيم، أوراقه ذهبية، عنوانه " كأنه الخلود "، لكن أرجو أن تعتني به أيما عناية.
قلت له بكل ثقة : أتشرف بذلك، لك مني وعدٌ، ووعد الحر دين عليه، أني سأحافظ عليه.
وختم قوله: اسمع مني هذه الكلمات، قبل قراءة الكتاب..
-أحسست في تلك اللحظة، كأنه يمنحني قفلا معه مفاتيح- عليك بقراءة الشعر فإنه يهذب النفوس، ومطالعة القصص فإنها ترهف الأحاسيس، وتكسب المرء قيمة، تزيده بهاء ووجاهة وحسن بيان.
هذه ليست نهاية الحكاية، بل هي بداية حكاية جديدة..
في اليوم الموالي، وأنا أضع رأسي على الوسادة، أغرق في التفكير، أغوص في بحر بلا أمواج، أمتطي حصانا بدون لجام، تراودني تلك الكلمات أو بالأحرى التوجيهات..
إنها هدية تشبه قصيدة تأخذك أخذا، تشدك إلى عالمها الجذاب، تسحرك بلحنها الجميل وتبحر بك على قارب خشبي في بحر عبابه الأرواء، وأمواجه المزبدة كأوزان الخليل..
إنها تشاكل حكاية خالدة آسرة، فاتنة تتأنق في مظهرها، تتزين في حبكتها، شخصياتها تعلق في الأذهان، وأمكنتها قيثارة تصدح أشجان، وأزمنتها كسفينة محملة بالجواري الحسان..
إنها تضارع سيدة تطل عليك من الشرفة، بشعرها المنسدل على كتفيها، وثوبها الأبيض الناصع الشفاف، ترسم لك الطريق حروفا مضاءة، تبدد كل همومك، إنها امرأة لا يمكن أن تأتيك إلا في الحلم، تأتي لتنير دربك المظلم، وتبعث في نفسك روحا جديدة، إنها تعاود الكرة، لكن هذه المرة، تؤوب لتمنحك قلما معينه لا يجف، وتهديك كتابا لا تمل ولا تسأم من قراءته..
تمسكت بذلك القلم بشدة، وعانقت الكتاب عناقا أشبه ما يكون بعناق الأب لابنه العائد من بلاد الغربة، وأخذت عهدا على نفسي، بمواصلة القراءة و الكتابة الإبداعية في شتى المجالات..
مجلة فن السرد | مشاتل
إرسال تعليق