قد لا يحتاج قارئ كتاب "خواطر" لفطنة عالية، ولبابة رفيعة، ليستشعر المقام الذي كان يرتقيه طه حسين وهو يستجمع في نفسه خواطر كتابه، خاطرة تلو الخاطرة. فهو يظهر من ورائها في طيلسان المعلم الجهبذ، الذي تعرض عليه واجبات تلامذته ليطالعها، وليبدي لهم فيها ما وجده من هفوات، وما وقف عليه من حسنات. ثم ليمهر لهم عليها بعبارات المديح للنجيب المحسن، وبعبارات التقريع المبطن حينا، والصريح أحيانا للمتعثر المقصر.
ولصفات المحسن عند طه أسُس ومقومات، وللمفرط عنده كذلك علامات ومؤشرات. ولا بأس أن أمثل بمثالين؛ واحد للمجتهد النجيب والثاني للمقصر المفرط.
فأما المثال الأول فقد كان من حظ الدكتور أحمد الحوفي على كتابه "أبو حيان التوحيدي"، الذي رأى طه حسين أن الدكتور الحوفي "بذل فيه أقصى ما يستطيع من الجهد، واحتمل أقسى وأشد ما يمكن أن يحتمل باحث في بحثه، حتى وافاه حقه وبلغ في درسه غاية ما يستطيع الباحث أن يبلغ من الاتقان والاستقصاء. لم يدع كتابا من كتبه التي وصلت إلينا إلا وقف عنده فأطال الوقوف، وحلله فأحسن التحليل. فكان كتابه مثالا لدقة البحث، وحسن التحقيق."
وأما المثال الثاني فكان من حظ توفيق الحكيم الذي تكلف، حسب طه، ما لا تطيقه موهبته في أمرين، "حين أراد أن يكون فيلسوفا وينشئ نظرية التعادل، مع أن موهبته لم تخلق للفلسفة ولم تهيأ لها، وإنما خلقت لإنشاء القصص التمثيلي الممتع. وحين أراد أن يكتب القصص غير المعقول، فكتب "يا طالع الشجرة" وما شابهها مع أنه لم يخلق لهذا وإنما خلق ليكون معقولا حين يكتب وحين يقرأه قراؤه".
ولقد وفق الذي عنون الكتاب بالخواطر غاية التوفيق. فوصْفه بالخواطر انطباق يكاد تاما على مقالاته مادة وغزلا. ذلك أن أكثر ما ورد فيه من أفكار وتعليقات وآراء، كان طه حسين ينطلق في إملائها عفو الخاطر. ولا يكلف نفسه جهد التعميق والتحبير. وليس هذا بمأخذ نأخذه عليه، ولا استدراكا ننبه إليه. إنما هي ملاحظات نستفتح بها الحديث عن بعض القضايا التي أثارتها القراءة في كتابه "خواطر". وإلا فإن الرجل قد احطاط لنفسه من مثل هذا الصنيع بوسم عمله بالخواطر. هذا فضلا عن أن نصوصه نشرت أول ما نشرت في المجلات والجرائد.
وقد ضم الكتاب ثمانية عشر مقالة، تخص كل واحدة منها كتابا مخصوصا. يختلف كل واحد عن أخيه باختلاف طبيعة المادة التي فيه، والمجال الذي تنتمي إليه. وتتوزع اجمالا بين الدراسات التاريخية والدراسات الأدبية والرواية والسيرة الذاتية.
غير أن الشيء الذي كان غريبا في الكتاب، هو استعمال طه حسين لفظة "القصة" لوصف النصوص الروائية التي شملتها قراءاته وتعليقاته بدل لفظة "رواية". على الرغم من أن أصحابها جنسوها بالرواية وتعامل معها النقاد والقراء على أنها كذلك.
فقد قرأ الدكتور طه حسين وعلق على خمس روايات. اثنتين منها لتروت أباظة هما: "ثم تشرق الشمس" و "لقاء هناك." واثنتين أخريين ليوسف السباعي هما: "ليل له آخر" و "أقوى من الزمن." أما الخامسة فهي لكاتب غفل أو تغافل طه عن ذكر اسمه وعنوان روايته أو قصته. وقد تناولها في المقالة التي بعنوان "أعاصير".
وفي محاولة لاستجلاء ما يمكن أن يكون قد حدى بطه حسين إلى هذا الاختيار أذكر ثلاثة من الفرضيات. تُرجع الفرضية الأولى السبب إلى أن الذي سبق إلى لغة الدكتور طه وترسخ في ثقافته الأدبية، وانطبع في وعيه النقدي هو لفظة القصة وليس الرواية. ومن تم فقد تعذر على لفظة الرواية أن تدخل في قاموسه وتجد طريقها سهلا إلى خواطره وتعليقاته ونقوده.
وتقترح الفرضية الثانية كون طه حسين يميز تمييزا حادا بين القصة والرواية. وأنه لم يجد في كل تلك النصوص التي قرأها وعلق عليها غير ما يميل بها جهة القصة ويبعدها عن الرواية. وأما الفرضية الثالثة فتذهب في اتجاه أن طه لم يكن يرى فرقا بين القصة والرواية. فالرواية عنده هي القصة والقصة هي الرواية. وأيما لفظ استعمله فهو ينوب نيابة كاملة عن توأمه.
وأيا كان السبب الذي جعل طه حسين يقتصر على لفظة القصة لوصف تلك النصوص بدل لفظة الرواية فالذي يبدو جليا هو أن الرواية ليست مجرد قصة وأن كل قصة ليست رواية. إذ البون بينهما كبير وشاسع. وإذا أردنا تقريب الفرق بينهما بمثال توضيحي قلنا إن الفرق بين الرواية والقصة كالفرق بين المنتوج الصناعي والأثر الفني. فالأول حصيلة تعليم وتدريب وتكرار ومران وتمرس. بينما الثاني انبثاق شعوري ذاتي، ظل يجيش ويترعرع ويكبر في نفس فنان موهوب زمنا، حتى تفجرت ينابيعه وسالت في أودية الكلمات أو الألوان أو الألحان أو غيرها من أودية البيان والبوح.
وإذا لم يكن في هذا التشبيه كفاية لتجلية الفرق بين الوراية والقصة فلا بأس من اقتراح معيار عملي يسهل علينا مهمة التمييز. ويتلخص هذا المعيار العملي في امكانية تلخيص النص المقروء من عدمها. ولست أقصد بالتلخيص هنا أن ينقل القارئ إلى مستمعه الشعور أو الانطباع الذي ترسب في وجدانه وهو يقرأ الرواية أو بعد أن يفرغ من قراءتها، وإنما أن يعيد سردها أو حكيها. فإذا وجد لسانه منطلقا، ووجد في النص الذي قرأه ما يسعفه على ذلك، فلا شك أن الجانب القصصي فيها قد طغى على الجانب الأدبي أو الفني. وأما إذا حاول تلخيصها وتكلم قليلا ثم ارتبك وتلعثم فذلك مؤشر على أن الجانب الفني فيها مقدر ومعتبر.
ولعل الأصل في هذا المعيار راجع إلى خاصية في الرواية الأدبية باعتبارها عملا فنيا. تتجلى أساسا في كون الفن يهرب من الشفافية التامة، والسفور الفاضح. وينحو نحو الغموض الفني. فالغموض الفني في الرواية الأدبية عنصر بنيوي داخل في تركيبتها الفنية. وهو إثراء لها وإغناء لمقروئياتها. ولا يقصد إليه الروائي قصدا. لأنه طبيعة متأصلة فيها. ولست أقصد بالغموض التعمية أو الإغماض الذي يلجأ إليه بعض الكتاب هربا من أنوف القراء المتلصصة الباحثة عن الذاتي بين ثنايا الرواية.
ومن تم وتناغما مع هذه الخاصية، خاصية الغموض الفني الطبيعي، وتأسيسا عليها ينبثق معيار ثان يسعفنا في التمييز بين القصة والرواية. إذ تظهر الرواية، على ضوئه، بوجوه متعددة، ومسارات متباينة، وظلال متشعبة، وطبقات متراكمة. يكتشف فيها القارئ الواحد مع كل قراءة جديدة وجها جديدا، أو طبقة مطمورة، أو عالما كان خفيا، أو خيوطا ناظمة تلملم تفاصيل شتى. بينما تظهر القصة أحادية البعد، رقيقة الطبقة، شفافة البناء، منحسرة العوالم، ضيقة الأفق، يكاد يجد فيها القراء المختلفون العديدون الشيء عينه والأمر ذاته.
وهذا ليس إلا غيض من فيض ما يمكن قوله عن الفرق بين القصة والرواية الأدبية، وإلا فهو ميدان فسيح ذو شعاب ومسارب. غير أن الذي أود ختم هذه المقالة به هو أن دأب الروائي ليس هو الجري وراء وقائع وأحداثٍ، يجمع منها مقدارا معلوما، ثم يجلس إليها كي يفرعها ويلغزها ويشبك بين خيوطها. ثم يختار لأجل تحقيق ذلك شخصيات محنطة. وأفضية صماء. وهيكلا معماريا صلبا. ولغة مصقولة لامعة. وحسبه إذا فعل هذا أن يسم نتاجه بالعلامة السحرية "رواية". قرير العين، راضي النفس، مطمئن البال.
مجلة فن السرد | زوايا
إرسال تعليق