بصمة بهاء طاهر | هند يسن

 

بهاء طاهر


بصمة بهاء طاهر

بقلم دة. هند يسن[1]

 

" لا أفهم معنى للموت.. لكن ما دام محتمًا فلنفعل شيئًا يبرر حياتنا.. فلنترك بصمة على هذه الأرض قبل أن نغادرها."[2]


بهاء طاهر، روائي وقاص ومترجم مصري، ولد في الثالث عشر من يناير عام 1935م، وتوفي في السابع والعشرين من أكتوبر عام 2022م عن عمر ناهز 87 عامًا. قدم بهاء طاهر كتاب " أبناء رفاعة .. الثقافة والحرية" الصادر في طبعتين عامي 2009م، و2011م عن دار الشروق.

يقدم لنا بهاء طاهر وجهة نظره عن الثقافة والحرية من خلال قسمي الكتاب، القسم الأول: النظرات، والقسم الثاني: العبرات. واختيار مسمى " النظرات والعبرات" يحيلنا إلى كتابي مصطفى لطفي المنفلوطي، فهما يعتبران من أبلغ ما كتب في العصر الحديث. " النظرات"  كتاب أدبي صدر عام 1907م، عبارة عن مجموعة من القصص ومجموعة من المقالات الاجتماعية والسياسية والدينية، التي حرص المنفلوطي من خلالها على معالجة شؤون المجتمع.

أما " العبرات" صدر عام 1915م، وهو مجموعة من القصص التراجيدية، والمجموعة كلها عبارة عن مأساة، تشترك في أغلبها بلوعة المحبين وشقاء المساكين، وحسرة المظلومين وعذاب المفجوعين؛ إنها بالفعل عبرات تذرفها أثناء قراءة كل قصة.[3]

في القسم الخاص بالنظرات نجد مقالًا يحمل عنوان الكتاب نفسه وهو " الثقافة والحرية" "الثورة.. على المثقفين"، فالثورة يفترض أنها تصحيحًا للأوضاع القائمة، كذلك من المفترض أن يكون للمثقفين الدور الأكبر في هذا المسار التصحيحي والإصلاحي، فكيف تصبح الثورة ضد من يقومون بالإصلاح؟!

في بداية المقال يطرح بهاء طاهر تساؤلًات مهمة وهي " ما الذي حدث بحيث أصبحت الثقافة الجديدة التي غيرت وجه الحياة في مصر في موقف الدفاع عن النفس؟.. كيف صار بعض الناس يحنون إلى ظلام العصر العثماني الذي أوشكت مصر في ظله أن تبيد؟.."، وكيف حاول بعض الكتاب البحث عن إجابات لتلك الأسئلة، ولكن ما يبحث عنه بهاء طاهر من خلال تساؤلاته السابقة هو مسار التطور الثقافي في مصر، أو كما أسماه هو " التراجع الثقافي".

وفي طريقه للإجابة عن تلك التساؤلات، أخذنا بهاء طاهر للحديث عن رائد من رواد الثقافة في مصر وهو عميد الأدب العربي "طه حسين" حيث يراه  طاهر الامتداد لتراثنا الثقافي والتجديد الحي له في آن واحد، عندما كان وزيرًا للمعارف عام 1950م،  فخلال فترة وزارته القصيرة التي لم تتجاوز السنتين، تمكن من تعميم مشروع مجانية التعليم والقضاء على الأمية.

 العلم والثقافة بالنسبة للعميد، لم يقتصران على المدارس أو المعاهد والجامعات، فلابد أن تكون هناك مراكز مستقلة للبحث العلمي، لا تحتاج فقط إلى التمويل المادي، ولكن هناك ما هو أعظم من المال؛ وهو الحرية، كذلك يجب أن تتعاون كل الوسائل على نشر الثقافة الرفيعة في المجتمع، ومنها الصحافة والإعلام على سبيل المثال. كل ذلك  طرح المزيد والمزيد من التساؤلات في عقل بهاء طاهر لكن بلا إجابة واضحة.

فقد كان مصير طه حسين وتطلعاته للثقافة والحرية المجتمعية نمطيًا كغيره من المثقفين، وهو أن يبقى داخل الدور المرسوم له وأن يثرثر بقلمه في أمور لا تضر ولا تنفع، بمعنى أصح وعلى حد تعبير طاهر، كان المطلوب أن يظل دور المثقف " شرفيًا"..! ولكن المهمة الحقيقية للمثقف في مجتمعه هو القيادة الفكرية التي لا تعني بالضرورة أن يتولى المثقف منصبًا كالوزارة، ولكن الأهم أن يكون صوت المثقف مسموعًا وأن تكون آذان القيادة والرأي العام مصغية.

وفي فترة الثورات مثل ثورة 1952م التي كانت تمثل التغيير والتحول الجذري الذي يرجوه الشعب كافة، والتي عاصرها العديد من عمالقة الثقافة المصرية الجديدة، ظل الأمر على ما هو عليه، فكان المثقف المثالي هو " المثقف الموظف لا المثقف المفكر"، أي المثقف الذي يتولى تجميل أفكار القيادة السياسية والتشدق بها والترويج لها، لا ذلك الذي يعارضها ويقاومها.

ولم يختلف الأمر كثيرا بعد ذلك في فترة حكم السادات، بل ازداد سوءًا من وجهة نظر بهاء طاهر، فقد كانت سياسته المعتمدة هي معاداة الثقافة وحرية الرأي والتعبير، وكان ينعت المثقفين ببعض الأوصاف بداية من " الأفندية الحاقدين" وصولًا لأنهم " شيوعيون وملحدون"، الأمر الذي أدى به إلى فصلهم من عملهم بالدور الصحفية، وكان من بينهم " توفيق الحكيم ونجيب محفوظ".

صفا الأمر للمثقفين بعض الوقت خلال حرب أكتوبر المجيدة، ولكن سرعان ما عادت الأمور إلى ما كانت عليه، وجاء ما أطلق عليه بهاء طاهر " عصر الخروج الكبير للمثقفين إلى منافي الشتات خارج الوطن"، وذلك عقب توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979م حيث أخذ بعضهم متاعه وهاجر إلى بلد عربي أو أوروبي، فذهب البعض إلى العراق والبعض الآخر إلى الكويت، ومنهم من سافر إلى باريس أو لندن. وهناك من أصر على الاستمرار من خلال كتابة قصص رمزية أشبه بالألغاز مثل " نجيب محفوظ"، ومنهم من ترك الأدب نهائيًا وتفرغ لكتابة المقالات السياسية مثل " يوسف إدريس"، ومنهم من رفض الظهور مثل " جمال حمدان".[4]

فعندما هان أمر المثقفين على الحكام، هان كذلك على الناس. وكان من الطبيعي بعد ذلك أن تصدر الكتب والمقالات في الهجوم على بعض الكتاب والمفكرين مثل طه حسين وقاسم أمين، وترتب على ذلك شيء بالغ الأهمية، وهو تدني مستوى ثقافة الجمهور العام، وذلك لغياب القيادات الفكرية الحقيقية التي حل محلها مجموعة من أنصار الحكام الذين ساهموا في خلق حالة من التسطيح الكامل للوعي الجمعي. باختصار، كان ذلك من وجهة نظر بهاء طاهر " نكسة ثقافية".

كما يرى بهاء طاهر أنه وفي ظل التراجع الثقافي العام والمستمر، من الطبيعي ألا تروج أفكار أبناء رفاعة الطهطاوي على مر العصور وباختلاف الحكام، ذلك الفكر الذي يدعو لحرية الفرد ومسئوليته، ومن الطبيعي كذلك أن ينتهز خصوم نهضة مصر الفرصة للرجوع بها إلى ما كانت عليه قبل أن تتبلور منظومتها الثقافية العصرية.

وفي القسم الخاص بالعبرات، يتناول بهاء طاهر نماذج من مثقفي العصر الحديث. منهم  "سيد المقال" كما أسماه بهاء طاهر، الكاتب الكبير " يحيى حقي". يصف طاهر عالم حقي بالعالم الآسر، الذي يجعلك بمجرد الدخول إليه صديقًا له، هو ذلك الصديق الذي يصدقك دون وعظ أو افتعال، ودون نظريات أو فلسفات. هو ضميرك الحي في كثير من الأحيان، وهو أيضًا نفسك اللوامة.

يتطرق بهاء طاهر إلى تجربته مع كتاب حقي "خليها على الله"[5]، وهو في جزئه الأول مجموعة من الذكريات المبعثرة لحقي عن مدرسة الحقوق القديمة، ثم محاولاته في إيجاد عمل بالمحاماة. كذلك يحدثنا حقي في كتابه عن السماسرة الذين يتحايلون لاصطياد الزبائن للمحامين، ومن تحايل السماسرة إلى قضايا النصب ومنهما إلى طرائف القضايا والقضاة، ولكن وسط كل تلك الحكايات يأخذنا طاهر إلى قضية مختلفة رآها حقي، وهي قضية " فهمي النجار".

محمد فهمي هو ذلك الحرفي المصري البسيط الذي حوكم في مقتل السردار السير "لي ستاك"[6]، والوحيد الذي حكم عليه بالإعدام شنقًا بعد تبرئة الجميع. ويكتب يحيى حقى عنه بعد أن رآه فى المحكمة: " يجلس المتهمون فى صفين، فى الصف الخلفى السياسيون المثقفون.. فى الصف الأول جلس المتهمون من غير الساسة المثقفين.. جماعة من أولاد البلد، فى وسطهم محمد فهمي.. ونظرى مثبت على وجه محمد فهمي، ابن البلد النجار الذى حكم عليه وحده بالإعدام من أجل القضية الوطنية ذاتها الموجهة لزملائه، لا من أجل السرقة أو النهب، لا أستطيع أن أقول إن وجهه شاحب أو مذهول، بل من عينيه تنبعث نظرة بلهاء لرجل حائر لا يفهم ما يرى ولا يدرى كيف يفسره.. لم يكلمه واحد من زملائه أولاد البلد فى الصف الأول، ولا واحد من شركائه الساسة المثقفين الجالسين وراءه، لم يكلمه واحد من الجمهور لأنه منشغل بالرقص والضحك والهتاف."[7]

يقول طاهر إن تلك اللقطة الحزينة الموجعة على الرغم من تناقضها على ما سبق من حكايات طريفة ساخرة قصها حقي إلا أنه في الحقيقة تكملة لها، لأن تلك الحكايات في النهاية تعديك بالشجن نفسه الذي تثيره بداخلك تلك الحكاية الحزينة. " فالكوميديا الحقة أشد حزنًا من المأساة". والفكاهة عند حقي تحرك في داخلك قلقًا ما وتردك دائمًا عن الابتسام، وأن التراجيديا على ما فيها من دموع وأحزان تطهر النفس بما تثيره من مشاعر الشفقة والحزن. وكل تلك المشاعر المختلفة تثري التجربة الإنسانية والحس البشري الجمعي.

يوضح طاهر أن عبقرية حقي تنبع من بحثه الدائم من خلال كل المواقف عن إنسانية الإنسان، وأن الفكاهة التي يسعى إليها حقي هي فكاهة النقد المبني على المفارقة والمشرب بروح التعاطف الإنساني. فهي تصوير لعيوبنا الاجتماعية من منطلق الإشفاق والحب، لا من منطلق السخرية والهجاء. المنطق الذي يفيد لا يسحق.

وروح الفكاهة المشبعة بالإنسانية تنبع عند حقي بشكل طبيعى لا تكلف فيه، فكما وجدناها في " خليها على الله " أو " دمعة فابتسامة"،  نجدها مبثوثة في أعماله الجادة مثل " قنديل أم هاشم" و " دماء وطين"، وفى دراساته للشخصيات والمواقف فى كتابي " عطر الأحباب" و"ناس فى الظل"، كما نجدها عند يحيى حقي المؤرخ الاجتماعى فى أعمال مثل " صفحات من تاريخ مصر" أو " حقيبة فى يد مسافر". فهذه الأعمال يكمل بعضها بعضًا بما تهدف إليه فى مجملها من إشاعة القيم الإنسانية فى الأدب وفى الحياة.

ويختتم طاهر مقاله عن حقي قائلًا: " وأنا أشعر بالكثير من الأمل حين أرى رواج الطبعات الشعبية من أعمال يحيى حقي مثل " خليها على الله" و" عطر الأحباب" وغيرهما. أعرف أن ذلك يعنى أن رسالة يحيى حقي الإنسانية ستصل إلينا جميعًا. ربما فى شيء من البطء، ولكن بكل قدرتها على التأثير. أثق أنها ستساعد على أن تكون حياتنا أفضل حين تختفى منها تلك الأشياء التى قال إنه يكرهها كل الكره " القبح والدمامة وفساد الذوق وثقل الظل وانعدام الحياء"."

ووفقًا لخاتمة الكتاب، فإن فصول هذا الكتاب تدور كلها في فلك واحد انشغل واهتم به بهاء طاهر؛ فلك الحرية ودور المثقف في المجتمع وعلاقته بالآخر، حيث يعبر من خلاله عن رؤيته لمسيرة التنوير، وأن التحدي الحقيقي والدائم أمام مجتمعنا أن يحافظ على حضارته وثقافته، مع مواكبة التطور الغربي سعيًا للوصول إلى ذاتية ثقافية مستقلة ومميزة.



[1] د. هند محمد يسن: مدرس الأدب العبري الحديث والمعاصر المقارن بقسم اللغات السامية، كلية الألسن، جامعة عين شمس، القاهرة، مصر.

[2] اقتباس من رواية " واحة الغروب".

[3] نقلًا عن مؤسسة هنداوي.

https://www.hindawi.org

[4] جلال أمين، ماذا فعل السادات بالمثقفين المصريين؟، مقال منشور في جريدة المصري اليوم، الأربعاء 3/12/2014.

[5] صدر الكتاب عام 1991م موضحًا على غلافه الداخلي أنه السيرة الذاتية لحقي نفسه.

[6] االواء لي أوليفر ستاك ( 1868م: 1924م)، سردار الجيس المصري وحاكم عام السودان، أطلق عليه خمسة أشخاص الرصاص في 19 نوفمبر 1924م، وقد توفي منتصف ليل الجمعة 20 نوفمبر 1924م متأثرًا بجراحه.

Lite. almasryalyoum.com

[7] نقلًا عن اليوم السابع، سعيد الشحات يكتب: محمد فهمي " النجار" ينصح محاميه بعد الطعن في الحكم بإعدامه".. وسعد زغلول ويحيى حقي يتعاطفان معه، السبت 26 مايو 2018، 10:00 ص.

https://m.youm7.com/story/2018/5/26

 مجلة فن السرد / قراءات ودراسات

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث