رسالة نكولونكولو unkulunkulu | حسن البقالي

مجلة فن السرد




رسالة نكولونكولو unkulunkulu


كانت متخفية كما يجدر بها التخفي، متمسكة بالغصن مثلما يتمسك الرضيع بالحلمة وساكنة كالموت، لولا عيناها اللتان تبحلق كل منهما في اتجاه تترصدان الكائنات ومصادر الضوء وذبذبات الأجنحة.

ثم رأته يتسلق الشجرة بخفة حيوان غابوي، فازدادت التصاقا بالغصن وذاب لونها في لونه بحيث لا يرى فيها الرائي غير جزء من اللحاء. لم تكن تعرف بأن طالبها محترف صيد حرباوات وأنها الهدف الذي دخل غمار الغابة من أجله. لذلك لم تحسم – بالسرعة اللازمة- في رد فعل ملائم حتى كان بالقرب يمد نحوها يدا مهددة ناقمة. حركت جسدها قليلا وصدر عنها صوت يشبه الفحيح تريد به دفع الخطر. وفي اللحظة التي سحبت فيها الهواء وهمت –في حركة يائسة- بأن ترخي كماشتيها على الغصن وتترك لجسدها أن يهوي إلى أسفل، كان قد أحكم قبضته عليها.

- حرباء لعينة أخرى تريد أن تفلت، لكن هيهات

وضعها في جراب من جلد يتدلى على جنبه الأيمن وجعل يتنقل هبوطا من غصن إلى آخر، حتى إذا بلغ الجذع طوقه بيدين ممتنتين وهو يصفر بلحن أغنية خفيفة. كان يبدو كطفل يطوق جسد أمه التي أحسنت إليه.

لأحمد الشنقيطي كره أعمى للحرباء!

يظل تياها في الفيافي وفوق الأغصان يترصدها، وحين يعود مساء يعلق الجراب الجلدي الذي يحوي صيده منها في فناء الدار ويشرع في "تقطيبها" كما يقطب الصوف بقضيب زيتون رقيق، فيما يدمدم بعبارات غامضة شبيهة بتعويذات سحرية وتعازيم، أو عبارات غاضبة وشتائم كما لو أن الأمر يتعلق بطقس عقابي وإحياء لخطيئة أصلية.

وإذ يشعر بأنه سمع ما يكفي من أنات الحرباوات وحقق المتعة المرجوة من حفلة التعذيب،  يتجه إلى الفرن التقليدي المبني عند زاوية الفناء، يخرج الخبزات الناضجات ويدلق محتويات الجراب مكانها ثم يغلق فوهة الفرن.

يسمع فرقعات الأجساد في طور الاحتراق مقرونة برائحة الجلد الذي تأكله النار، حينها فقط يشعر بأنه أدى رسالة النهار وأنه استحق راحة ليلية تعيد إلى جسده بعض الطراوة، وتسعفه في رحلة الغد. هي جولات بلا نهاية وحرب لا هوادة فيها على زاحف بليد أجلس البشرية على أكبر خازوق يمكن تحمله. 

كان معروفا عنه أنه يكره الموت ويخشاها ويعجب لمن يتقبلها بالبداهة التي يتقبل بها الميلاد. يقول لا بد من وجود شيء يدحرها كما يدحر العدو. لو يحفر خندقا دونها أو يسير على خطى قلقميش بحثا عن عشبة الخلود. أكيد أنها تنبت في جهة ما، محجوبة عن الأعين ونائية جدا، في أرض خلاء عند نهاية العالم، مسكونة بالثعابين أو الجان، ومخلوقات أخرى لا يطالها الموت. يبحث بين سطور وآيات الكتب السماوية ومقروءاته السرية الأخرى، كتب صفراء وقراطيس وحكايات خرافية وشعبية وأساطير.

حينها لم تكن الحرباء تعني له أكثر مما تعني لعموم الناس، ذاك الكائن ذو السمعة السيئة، الذي له ألف لون ولسان دبق طويل كسوط أخرس وقاتل، ذو العينين الجاحظتين الشبيهتين بكرتين زجاجيتين ألصقتا في اللحظة الأخيرة بالجسد الهزيل، واللتين تشتغل كل منهما في استقلال تام عن الآخرى.

كان يرى بأن خاصية الرؤية المزدوجة هاته كفيلة وحدها بأن تجعل الحرباء كائنا غير مأمون الجانب، فكائن ينظر إلى الأمام وإلى الخلف في نفس الآن مؤكد أنه لا يثق في محيطه قيد أنملة، وبالتالي فهو الآخر ليس جديرا بالثقة.

تلك كانت حدود علاقاته بالحرباء آنذاك: حكم عام يلقى في معرض حديث عابر، ثم ينسى وجودها كليا.

كان يفكر في الموت!

كيف يتوارى عنها في صندوق زجاجي بمكان مهجور ويبقى هناك إلى الأبد يقرأ صحفه وأضابيره ثم يعيد قراءتها، يقرأ عن البدايات والنهايات، عن التنبؤات والتكهنات والأساطير حول نشأة الخلق.. حتى سقط بين يديه منشور عن إحدى القبائل الإفريقية ورؤيتها للنشأة والرجل الأول. قرأه مرارا واحتد بشكل غير مسبوق. في تلك اللحظات تولد لديه ذلك الحقد الأعمى اتجاه فصيلة الحرباوات بأنواعها المائة والستين أو تزيد. وقع تحويل فوري لموضوع الكره بحيث أخذت الحرباء مكان الموت، وأعلن عليها الحرب.

لاحظ الأهالي زياراته المتكررة لغابة الصنوبر ورجوعه مساء وقد هده التعب بجراب يتدلى على الجنب الأيمن ومضاء غريب في العينين. ثم صاروا يشمون رائحة احتراق لا يدرون سره فراقبوا وترقبوا واحتجوا ونبهوا، وخلال ذلك كان أحمد الشنقيطي يغرق أكثر فأكثر في عزلة قاسية.

كان يخال أحيانا ولكثرة ما أحرق من حرباوات بأنه لم يعد غريبا عنها، كأن أرواحها الألف تلبسته، تتجلى في لياليه في شكل نساء فاتنات وفي شكل جنيات وفي شكل هواء سام يتسرب عبر المسام ويشل الأعضاء.. وربما تحسس جسده نهارا يتأكد هل نبتت له قرون أو صارت له حراشف، وإذا كانت عيناه قد استقلت إحداهما عن الأخرى وصارت تدور بزاوية 360 درجة.

لم يعد يرى الآخرين إذا مر بهم. كانت روحه تحلق في عالم آخر تسكنه الحرباوات، وكان على الجسد أن يختفي. هكذا استفاق الأهالي يوما، وفيما بدت أمور البلد تسير على عادتها ووتيرتها البطيئة، تبين بأن أحمد الشنقيطي اختفى.

طبعا تنوعت التكهنات بشأن اختفائه، وفي معرض محاولة إيجاد أجوبة للأسئلة الحارقة، تجرأ بعضهم على اقتحام منزله فعثروا على ورقة ملصقة بدولاب بئيس في غرفة داخلية، قرؤوا:

(تحكي أسطورة الخلق عند الزولو أن "نكولونكولو" الرجل الأول وخالق كل شيء صنع الأنهار والجبال والشمس والقمر وأجرى الريح وأنزل المطر وسمى الحيوانات بأسمائها وعلم الرجل والمرأة كيفية الصيد وإشعال النيران.

وحين انتهى من كل ذلك أرسل إلى العالم حرباء برسالة "أن خلقه لن يموت أبدا"، لكن الحرباء تكاسلت وتباطأت وتأخرت في تبشير البشر بالخلود، فما كان من نكولونكولو- الذي شعر بالملل- إلا أن أرسل سحلية برسالة ثانية مفادها "أن الموت في الطريق". كانت السحلية سريعة فوصلت أولا وبلغت الرسالة فتبعها الموت. ومن يومها لم يرحل عن العالم.)*


*******

أسطورة الزولو عن مقال أنترنيت: هذه أغرب الأساطير عن بداية خلق الإنسان حول العالم- ضحى صلاح

مجلة فن السرد | محاكاة 



التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث