في أصول الرأي الكاذب I حسن الباعقيلي


مجلة فن السرد



كنت في حديث مع أحد المنتسبين إلى أهل الأدب. العاملين في مضماره تنشيطا وقراءة وكتابة. وتشعبت بنا دروب الحديث وسالت أوديته إلى أن أخبرته عزمي المشاركة تلة من الأساتذة الفضلاء قراءة كتاب "المثقفون في الحضارة العربية الاسلامية" للدكتور محمد عابد الجابري. علق جليسي على هذا الخبر بعبارة ضافية قال فيها: "لن يلد المغاربة فيلسوفا آخر مثل الجابري."

فانتابني عقب هذه العبارة الضافية شك مسيطر وتساءلت بيني وبين نفسي عن أصل هذا الحكم الذي تفضل به صديقي المتأدب. هل له عنده سند أم أنه من قبيل الكلام الذي يلتقطه الناس من هنا وهناك ولا يكفون يرددونه دون تدقيق أو تمحيص أو تفكير؟ أم هو مبني على دراسة وبحث وتأمل ونظر في تراث الرجل وموازنته بتراث غيره من المغاربة المفكرين والفلاسفة والكتاب ومن تم فهو مستخرج من قراءات وتمحيص وموازنة وتقدير وتغليب.

غلبني الشك المسيطر في وجود سند من هذا النوع لحكم جليسي على عقم المغاربة المعرفي والفلسفي لما أعرفه عنه من صلته  بالكتب عموما وكتب الجابري خصوصا. وزاد الشك غلبة على غلبة حين تراءى لي مقدار ما كتبه ونشره محمد عابد الجابري من الكتب والدراسات والأبحاث والمقالات. ومقدار الوقت اللازم لقراءة كل ذلك. والجهد الضروري لتدقيق النظر فيه، وتمحيص عناصره، وغربلة مكوناتها، والبحث في عناصرها وأصولها ونتائجها. وليت هذا يكفي. فلابد لصديقي من أجل الوصول إلى ذلك الحكم القاطع من قراءة كل الذي أنتجه المغاربة، الذين يمكن أن يكونوا من رتبة الجابري وأندادا له، ثم الموازنة بين القراءتين. أما الكتاب والمفكرون والفلاسفة المغاربة الذين لم يلدوا بعد فلا قدرة لصديقي على التنبؤ بأحوالهم بلهى معرفتها والحكم عليها.

وشاءت الأقدار في تلك الأيام أن التقي صديقا عزيزا آخر وأنا في طريقي إلى المكتبة أبحث فيها عن كتاب الجابري، موضوع الندوة القرائية التي ذكرت آنفا أنني عازم على المشاركة فيها. ولم تتوقف دردشتنا حتى ونحن ندقق النظر في عناوين الكتب المعروضة في رفوف المكتبة طبقة على طبقة. ولم يكف مرافقي يصف الجابري بالمفكر الكبير، تصريحا حينا، وتلميحا حينا آخر. غير أن الشك لم يكن قد غلبني هذه المرة أو حتى انتابني كما في المرة السابقة. فكلام صديقي هنا هو بلا شك مما اعتاد الناس قوله وترداده. وليس مستخرجا من مطالعة في آثار الرجل ولا هو حصيلة تقليب نظر وتفكير فيها.

وقبل هذا وذاك حدث أن وصف صديق ثالث لي مجموعتي القصصية "عائد من هناك" بالرائعة، وهي بعدُ خضراء في المطبعة لم يجف ماء مداد حروفها. ولم يكن قد اطلع على مسودتها ولا علم له بالذي فيها موضوعا وبناء. غير أنني لم أنكر عليه وصفه، بل طربت له وشكرته عليه في سري. وعللت طربي هذا بأن أوجدت له أصلا وسندا. فلقد أوهمت نفسي، أو هي من أوهمني، أن صديقي كان ينطلق في وصفه من حسن ظنه بي وبما أكتب. ومن رغبته في تشجيعي ودعمي على المواصلة في درب البيان والابانة. أوليس وصفه مجاملة؟  وبعض المجاملة تحفيز وتحبيب!

لا شك أنني هنا أراوغ وأداور وأحاول أن أؤصل لحالة كان الأجدر بي ألا ألتفت إليها ولا أقبلها. ولكنني قبلتها وطربت لها لأنها راقتني، وصدفت في نفسي هوى غلبني على أمري حين توهمت أنني قد أجني من وراء ذلك فائدة.

ولقد رجح عندي أن جليسي المتأدب قال ما قال عن الجابري تأثرا بالسمعة الشائعة عنه، وبالصيت الذائع عن أعماله. وكذلك كان حال صديقي الذي رافقني إلى المكتبة. أما صديقي الثالث فقد أثنى على المجموعة القصصية "عائد من هناك" ظنا منه أنها لا شك كذلك، وتلك سذاجة ما بعدها سذاجة. ولقد طربت أنا لوصفه هوى وتوهما أنني أحصد من ذلك مغنما.

وقد يكون هذا الذي تفضل به أصدقائي الثلاثة من الكلام العابر الذي يجري على ألسنة الناس في أحاديثهم العابرة. وقد يتراجع عليه صاحبه حين يضطر إلى تدقيق النظر فيه وفي حمولاته أو حين يواجه بما يخالفه. بل هو كذلك. غير أنه يقدم لنا صورا من أصول عديدة للرأي الكاذب انشاء وانتشارا.

وأيا كان الباعث على الرأي الكاذب وأصله وانتشاره، فهو مما يجب أن ينتبه إليه المتكلم ويكف عنه باعتبار ما للكلمة من خطورة وللرأي الكاذب من أثر. فمثل هذه الآراء الكاذبة خاصة في مجال الفن والفكر والعلم قد تصيب أناسا بأوهام ترفعهم إلى مكانة أكبر من مكانتهم. وتصيب آخرين بحزن حين تبخسهم حقهم، وقد تنزل بهم دركات.

ولعل الرأي الكاذب يصبح أكثر خطورة حين يعرف طريقه إلى بضاعة المتكلم في العلم والفكر والأدب. أما إذا كان هو كل بضاعته فالخطب أشد وأنكى. لأن الغاية عنده أن يظهر بعباءة المثقف المستنير. القابض على ناصية كل فن بزمام. والحال أن بضاعته ليست مما يكد الجادون في تحصيلها. ويسعى الساعون في انمائها ويطلب الناهمون تجويدها دونما توقف أو كلل. فهو لا يكف يبعثر الفاسد من الرأي حيثما حل ونزل، فيسيح بقعا زيتية سامة حارقة.

حسن الباعقيلي
ذ. المبدع حسن الباعقيلي 


مجلة فن السرد / زوايا 

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث