السرد الواقعي في رواية "عبلة لم تمت"* للروائي المغربي حسن الباعقيلي
بقلم الكاتب: كمال العود
جميل أن تتماس حياتنا الإبداعية مع حياتنا العملية أو الوظيفية أو المهنية، حيث يمتزج الإبداع كفن، مع العمل الوظيفي كمهنة.
وهذا يعني لنا بالتالي أن المبدعين (لا يعيشون في بروج عاجية) كما يظن البعض، وهم ليسوا بمعزل أبدا عن محيطهم الاجتماعي والعملي وحياتهم الخاصة، وإنما هناك منهم من جعل بيئته العملية حقلاً خصباً يستقي منه أفكاره ويوظفها على شكل صور تعكس جانباً حيا ومهما من حياته الواقعية الفعلية، التي يعيشها بشكل يومي خارج المجال الإبداعي؛ إما على هيئة مذكرات أو ما يسمى بالسيرة الذاتية، أو سرد حكائي وما شابه ذلك.
وهذا -فعلاً- ما انتهجه الكاتب حسن الباعقيلي في روايته "عبلة لم تمت" موضوع قراءتنا اليوم.
تقع هذه الرواية في 94 صفحة من القطع الصغير، تناول خلالها الروائي حسن مهنة التمريض بأسلوب أدبي رائع يمزج في شكله ومضمونه فيها بين السرد الحكائي والمذكرات، مستعرضا أبرز الجوانب لحياة أصحاب هذه المهنة، وذلك من واقع خبرة الكاتب وممارسته لهذه المهنة على أرض الواقع المعاش.
خاصة أن هذه المهنة من تلك المهن الإنسانية القائمة أساساً على وجوب معاملة المرضى في المستشفيات والمصحات ومراكز العلاج بمنتهى الإنسانية والمحبة، والمودة واللطف، وتلمس أهم المشاكل والمصاعب أو تلك المتاعب التي يواجهها المريض أثناء علاجه ومساعدته في حلها قدر الإمكان، وذلك قبل أن تكون هذه المهنة وظيفة يكسب مقابلها الموظف قوت يومه.. وقد أشار الكاتب إلى هذه النقطة الهامة التي يتمحور حولها موضوع روايته في الصفحة 19: "ويلقون عليهم التحية وبعض الأسئلة البسيطة عن الصحة والأحوال ثم يدعون لهم بالشفاء...".
وحول آلية عمل الممرضين والممرضات في مراكز العلاج وما يواجهونه من متاعب وضغوط نفسية، يستعرض الكاتب عبر بطله مراد تلك الصعوبات: " اعتمدوا على أنفسكم. في العمل لن يجد الواحد منكم من يساعده، وسيكون عليه أن يكون ممرضا وطبيبا وإداريا ومنظفا وأحيانا مولدا تلد النساء على يديه. خاصة الذين سيعملون منكم في المستوصفات القروية النائية" ص 23.
قبل ذلك فالممرض بعد تخرجه يصبح بدون هوية " ما معنى أن يدرس الطالب كل هذا الكم من المعارف ثم في النهاية يجد نفسه ممرضا بدون هوية. ألكونه ممرضا متعدد التخصصات كان لزاما عليه أن يلم بكل تلك الفنون ويملأ رأسه به؟" ص 24.
كما وجه الكاتب نقدا للمنظومة التكوينية التمريضية حيث جاء على لسان البطل "مراد": " هيمنة المفاهيم والمعارف الطبية والتقنية على مواد التكوين. وهزالة محتوى علوم التمريض والعلوم الإنسانية وغياب أدبيات التمريض وتاريخ التمريض وفسلفة التمريض..." ص24.
تجتمع في هذه الرواية باقة منسقة من الآلام التي يعيشها البطل. آلام ينوء بحملها أولي القوة والبأس الشديد. ولا غرابة في ذلك فمن يخبئ مشاعره الأليمة الموجوعة، ويتكتم عليها بصمت مطبق لتغدو حديث نفسه.
يعاني "مراد" بطل رواية "عبلة لم تمت" من آلام شتى تتجسد في: الوجودية المشوهة، الذات المكسورة الحزينة، التيه والضياع والفقد.
هذه التيمات وغيرها يرسمها حسن الباعقيلي في ذات إنسانية تفيض رغبة في الممكن، عايشت زمنا من الألم والمعاناة حتى غذت عباءة توشح هذه الذات بصنوف من الأوجاع والمحن.
فأساس هذه المحن كما يرويها "مراد" هو (الفقر): " لا يستطيع مراد أن يطلب من أبيه درهما واحدا. يكفي الأب المسكين ما قائله تلك السنوات الثلاث من نفقات" ص 32. والحياة النفسية " أيقنت الأم أن أمرا ما جد في حياة مراد. وأن حزنا عميقا يلف كل قلبه" ص 69.
يتحوّل الألم في الرواية من مجرد حالة شعورية إلى سلاح لتغيير كينونة الفرد ونمط وجوده، فالألم إذن نوع من التمثلات الرمزية لرغبة الفرد في تأكيد وعيه بوجوده والإنطلاق لحياة جديدة، وما تمرد عنترة على قبيلته إلا تأكيد لذلك، وما ضيق مراد بقوقعته وتمرده على واقعه إلا رغبة في الممكن وتجاوزا للكائن.
لقد كان أسلوب الكاتب خلال عمله هذا أكثر من رائع، ولغته سهلة وواضحة ومباشرة. وكانت طريقة تناوله للأحداث والوقائع وللشخصيات المحورية في روايته متسلسلا ومرتبا ومنطقيا ويجنح للواقعية التي هي السمة الغالبة على هذه الرواية، مستخدم لغة أدبية راقية تراوح بين التمريض كعلم وبين الأدب كلغة ذات صبغة فنية تخرج الحقائق العلمية من الجفاف والصرامة والجدية لتقدمها للقارئ المعني بها بقوالب فنية تخاطب وجدانه ومشاعره وإنسانيته.
وقد تنوع أسلوبه في طرح مادة روايته مستفيدا من فنيات العمل الروائي أو الحكائي وأدواته، من تخييل وسرد وحوار، سواء أكان هذا السرد سردا مباشرا على لسان شخصية الراوي التي يمثلها "مراد" وهو الشخصية الرئيسية في الرواية، أو ما كان منه بشكل غير مباشر عن طريق الحوار المتبادل بين الشخصيات، وتنوعه بين الحوار الأحادي المنفرد أو ما يعرف في فن القصة والرواية كمصطلح بـ(المونولوج) أو كان حوارا متبادلا بين عدة شخصيات في آن واحد، أو ما يعرف بـ(الديالوج).
*رواية" عبلة لم تمت" للكاتب حسن الباعقيلي الصادرة عن مطبعة قرطبة عام 2017.
مجلة فن السرد | قراءات ودراسات
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا