تطل على ساعتها اليدوية الفضية؛ كانت تشير إلى الثامنة صباحا. مازال الليل يرخي سدوله على سماء تلك المدينة البئيسة؛ مدينة لم يكن لها نصيب من الحب في قلبها.
سيارات الأجرة هي الأخرى تمارس دلالها الفاجر في ذلك الصباح البارد. ولا واحدة تريد أن تتوقف. أولئك السائقون هم في الحقيقة مجرد شرذمة من قطاع الوقت. تتنازل إحداهن في الأخير لتقف عند أقدامها، والوجهة كعادتها، ومنذ ست سنوات، مقرُّ عملها البعيد والمطل على البحر، الفضاء الأزرق والعريض، الذي كانت دائما تنسى أنه يجاورها منذ سنوات.
ما الذي يعنيه وجود البحر بالنسبة لها؟ هو مجرد كيان عميق وٱسن مثل دواخلها.
سيبدأ اليوم وكباقي الأيام بحصص متتالية تكسر رتابتها بعض الساعات الفارغة، تستغلها لقراءة ديوان شعر أو رواية أو الاستماع لموسيقى تنتمي لزمن صفاء الروح.
إحساس غريب بألم يخز في جانبها الأيسر جهة الصدر. لن تهتم كعادتها، لأنها مهملة كلما تعلق الأمر بشؤونها الصحية. لحسن الحظ أن المرآة تذكرها بأنها أنثى لازالت في عمر الاشتهاء، لكي تتزين بحدود المسموح به احتراما لوظيفتها النبيلة.
ينساب شريط الذكريات التي مازالت دافئة في مخيلتها، وهي التي تقول دائما إن الذكريات هي في أصل الأشياء سجاد طائر، يحلّق دائما حول الأماكن المنيرة في ذاكرتنا. ذكريات ذلك الرجل الذي وقع عليه اختيار قلبها من بين سبعة ملايير من البشر. رجل متفرد في تركيبته وكأنه مفصل على مقاس انتظاراتها. رجل أعدته لها الحياة ليختزل وجود الٱخرين. تطيل النظر في عينيه العسليتين وتقبل صورته كلما اشتعل قلبها حنينا واشتياقا إليه. رجل فضل أن يغادر حياتها في لحظة إنصات ساذج لكبريائه، ضاربا عرض الحائط بمشاعرها وحمولة قلبها الثقيلة من الحب.
حدة الألم تزداد من وقت لآخر، والسكوت على هذا الأمر أصبح مضيعة للوقت، واستفسار زميلات العمل لن يجدي نفعا، لهذا أصبح من اللازم استشارة طبيب متخصص لتشخيص نوع المرض.
وحتى وهي تتجول في دروب المرض بين عيادات ومختبرات ومستشفيات، لم تنس أن تفتح نوافذ الذكريات لتدخل منها رياح عشق تصر على أن تطيل عمرَه في قلبها ولو على سبيل الاستئناس.
هي في الأصل أنثى لا تؤمن بشيخوخة المشاعر، وتشعر دائما بشرف اقتراف الجمال ولو كان تدوينة خارجة من عين الألم.
أنثى تستقبل الخيبات بابتسامة ساخرة وتبحث دائما عن أعلى الأماكن في قلبها لكي تحتمي من برد الٱتي، ولكي تبقى هناك فوق مستوى كل الشبهات. أنثى قد تلوم نفسها كثيرا إن هي فكرت يوما أن تغلق بوابة قلبها في وجه الحب، حب ذلك الرجل، ولو كان من طرف واحد.
يكفيها أن تعيش على وقع رفاهية الأحلام وأن تكتفي برسم ابتسامة على محياها كلما مر طيفه في ذاكرتها.
هي أنثى تعيش على أمل أن يظل قلبها أخضر، حتى ٱخر يوم في عمرها. تؤمن بأن العين بالعين والسن بالسن والسابق إلى العشق.. أكرم.
إصابتها بالمرض اللعين لم تفاجئها البتة. هي تعيش في زمن الفواجع والرحيل المبكر والغياب الذي يوقع على وثيقة اللاعودة. هي لم تعد تبالي لأن عداد الخسائر تبعثرت أرقامه. شجاعتها أصبحت ضاربة في عمق القسوة وهي تودع عشقها بدمعتين حارقتين متبوعتين بابتسامة باردة.
هي الآن أنثى لم ترث من مساءات الانتظار سوى فن الصمت الصاخب، والنظر للأشياء بأعين لا تجيد الغوص في العمق.
في الضفة الأخرى من خريطة العشق، يرن الهاتف معلنا وصول رسالة مكتوبة، مضمون الرسالة هو كالٱتي: " لقد كان رحيلك أشد وطأة من وقع المرض. ليتك انتظرت قليلا ولم تسارع الزمن في هرولته المجنونة. يا إلهي .. لقد كنت أسرع من القدر".
مجلة فن السرد | مشاتل
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا