"الفزاعات تستقيل" بين تشيئ الذات وأنسنة الأشياء | حسن البقالي

 

الفزاعات تستقيل

الكاتب مصطفى النفيسي الذي يعرفه المتتبع للمشهد الثقافي المغربي والعربي عموما، قاصا وروائيا يصدر مجموعة "الفزاعات تستقيل"1. 

مجموعة من خمسة عشر نصا مغفلة من أي ميثاق أدبي تجنيسي. وإذا اعتبرنا أن هذا الإغفال لا يتعلق –حتما- بسهو، وإنما بقصدية ووعي نظريين، فما الذي يتغياه الكاتب من ذلك؟ هل يريد أن يختبر ذائقة المتلقي ومعرفته بالأجناس والأنواع الأدبية، أم أنه يرى من البداهة أن يعتبر المتلقي نصوصه قصصا قصيرة، بحكم ما سبق أي باعتبار أن "القراءة في جوهرها هي تاريخ القراءة والنص في حقيقته هو تاريخ من النصوص" 2، ؟ أم لعله صار يؤثر على التقييد الأجناسي النص اللا يسمى والمنفتح على التسميات والنعوت؟

في فقرة سردية من أحد نصوص المجموعة يقول الكاتب على لسان السارد: " قالت أمي: ألن تنتهي من هذه الأسفار المملة؟ أجبت: وهل يملك النجار أن يضع حدا لحضور الأخشاب في حياته إلا إذا أصبح جزارا؟ وهو ما سيجعل رائحة اللحوم والدم تعشش في ثنايا ملابسه، إلا إذا تحول من جديد إلى رصاص وهو ما سيجعل رائحة المجاري والبالوعات ترافقه، إلا إذا تحول مرة أخرى إلى لص... إلا إذا تحول أخيرا إلى جبان.."

إن منطق التحولات هذا بقدر ما يضع الأصبع على مبدإ التغير الذي يحيق بالكائنات والموجودات على شتى المستويات، بقدر ما يؤكد على أثر المهنة التي يزاولها الإنسان على اهتماماته وتطلعاته وتقييد مساحات هويته حتى لكأنها تلبسه. 

ومن نفس المنطلق أقول: وهل يملك القاص أن يكون قاصا إلا إذا كان النجار والرصاص والجزار واللص والشرطي والمثقف والحبيب والخائن والذي يشعر بالسأم والذي يقبض على الجمر أو يجوب الآفاق، والذي يسافر عبر المجلدات والأسفار وعبر الأزمنة، يحيي الموتى ويقتل الأحياء ويجعل من مساحة القص ساحة لحوار الذوات فوق عشب للمتعة الفنية وتجاوز المألوف والعادي؟

حين يستحيل الناس إلى فزاعات:

هكذا يبدو النفيسي في مجموعته مثل حاو بارع لن تعرف أبدا ما الذي سيخرجه من قبعته في اللحظة السردية التالية، حيث تنسل الحوافز ويتشعب الحكي ليتولد عن ذلك عالم صاخب تتجاور فيه الذوات وتتحاذى دون أن تسفر تلك المجاورة عن لقاءات حقيقية للتحاور. 

إنه عالم فارغ من المعنى ومن القيم الأصيلة وكأننا إزاء بطل "غولدماني" باحث عن قيم أصيلة في مجتمع منحط، عالم للتسطيح الفكري وقولبة المشاعر والاتجاهات " يصيح فيه الناس في صباحاتهم وهم يبحلقون في انعكاساتهم على المرآة" بنبرة واحدة لا دهشة فيها ولا استغراب: "ها قد تحولت إلى أخطبوط".

المسخ الذي يؤكد هشاشة الوجود الإنساني يلغي الحواجز بين الإنسان وسائر الموجودات والأشياء، وليس "كافكا" وحده الذي يحضر ضمن مأدبة المسوخ هاته والتحولات، بل مجموع التجاذبات الفلسفية لفلاسفة ومفكري الإرادة والتشاؤم والوعي الشقي.

 هي إحالات إلى شوبنهاور ونيتشه وديكارت وكانط وسقراط وكل من طرح على الموجودات سؤال الوجود. "وماذا لو تركنا لإرادتنا؟ هل كنا سنختار هاته الحيوات؟ أم أن الحياة تجبرنا في النهاية على التسليم بكل شيء لنتحول إلى ببغاوات بأجساد كبيرة لا تثير أي تسلية تقريبا؟"

هو أخطبوط أو ببغاء أو فزاعة أو ظل "ألسنا كلنا فزاعات؟ لقد أصبحنا كالأشباء في المرايا" الفزاعة الجار، الفزاعة الطبيب، الفزاعة حارس السيارات، والرصاص وعامل المحطة وعارضات الأزياء.

تحول الناس إلى فزاعات هو بمثابة سطو على هوية الفزاعات الحقيقية واعتداء على وجودها وتبخيس لوظيفتها وفي النهاية، خلق مجتمع للفوضى والاضطراب الهوياتي، الشيء الذي لا يرضي الفزاعات، ومن هنا استقالتها ورحيلها الذي بيت بليل عبر رسائل الواتساب والماسنجر. إنها فزاعات منظمة تعرف أن ما لله لله وما لقيصر لقيصر، وأي اضطراب في منظومة الكون لا بد أن يقابل بقرار مصيري، قرار وجودي هو الاستقالة من الوظيفة بما يشبه الانسلاخ عن الهوية والرحيل رغم افتقادها المؤلم المحتمل للحقول ومجاورة الغربان.

حين يصير الفضاء ملاذا ونذيرا في آن:

يتبدى الفضاء في المجموعة ك"كرونوتوب" لاعبا أساسيا في مضمار السرد. إنه ليس "حارس مرمى في طرقات بمزاج سيئ"3 بل لاعب وسط، موزع أساسي ومهاجم أحيانا. هو قريقية أصيلة وكورنيش الصويرة وبومالن دادس ومختلف أحياء فاس باب فتوح، الطالعة، صهريج كناوة، باب القليعة، مولاي إدريس... فالذات الساردة المذوبة في الجماعة بوصفها مجرد نسخة من النسخ، أو الذات الفردية التي تشعر بالعزلة وفقدان القيمة هي في النهاية ذات قلقة تمج الاستقرار وتهوى الترحال "ألن تنتهي من هذه الأسفار المملة؟ لن ينتهي لأن الملل رديف الجمود، رديف التقوقع على الذات، وتبديل الأمكنة ملاذ.

وموازاة  بمنطوق المكان، يعلي الزمان بيرقه على ربوات المجموعة. إنه يوم الأحد ويوم الثلاثاء ووقت الظهيرة والأمسيات ووقت بزوغ القمر والشمس وهطول المطر... الزمان الذي ينذر بالكارثة، بالشر والعزلة، بوقوع شيء سلبي على أقل تقدير. 

يوم الأحد يعتقل ويبتر من جسد الأسبوع، الليلة قائظة والمساءات مغتمة ممطرة ومملة وعند الظهيرة يصبح البحر هو الآخر كسولا" و"هذه الليلة كان القمر مجرد وسادة مهجورة" و"كان الوقت صيفا.. وقت لا يمكن أن تجازف بالخروج فيه مهما كان السبب" و"كان المطر يسقط وجدتك تولول" إنه الوقت الذي يشمت بالذات، الذي يقتل، الوقت العدو.

حين يكون البطل كائنا للظل:

اغتراب الفرد في مجتمع يبخس من قيمة الفرد واغتراب المثقف في مجتمع يرفع من شأن قيم الاستهلاك ويمجد التفاهة، يؤدي به إلى عزلة قاسية ويرسخ لديه شعورا بالضعة وفقدان القيمة. إنه مجرد نسخة باهتة وبدون معنى ضمن الحشد البشري القطيعي الذي يحتكم إلى نفس العادات ويمارس نفس السلوكات، أوذات فردية مقتطعة من المجموع )وكلتا الصورتين وجهان لعملة واحدة(.. ذات تتشرب عزلتها حتى الثمالة سواء تلك التي فرضتها هي على نفسها أو التي فرضتها الجماعة " أنت الآن وحيد ولا حيلة لك".

 إنه شعور بالانسلاخ عن الآخرين، بالوحدة القاسية، مرفوق بوعي حاد بفداحة ذلك وتمزق وجودي. فثمة شيء غير طبيعي ينبغي تجاوزه لولا العجز القاسي أيضا عن التجاوز. "أو تدفن رأسك بين صفحاتها )الجريدة( فتحصل على خلوتك رغم أنف الجميع". هنا وخلال تلك الرحلة على متن القطار، ينقلب الوضع حيث تصبح الذات الساردة هي الفاعلة، هي التي تملك إرادة الاختيار وتؤثر العزلة ضدا على إرادة الجميع.

يقول هايدجر " إن الوجود البشري هو وجود مع الآخرين ومن خلال الآخرين" لذلك لا يمكن للذات الساردة ولنقل البطل، لا يمكنه أن يتخلص من الآخرين مهما كان وجودهم جحيما، بالضغط على زر. إنهم يشاركونه الوجود حتى لو بدا بطلا مضادا، غير متوافق اجتماعيا وغير مرئي، يدفن وجهه بين أوراق جريدة أو يوزع خطواته على الأماكن مثل "ورقة خريف تحاملت عليها الريح".

 "الناس لا يكادون ينظرون إليه، من هو حتى ينظروا إليه؟ هو نفسه كرر لنفسه أكثر من مرة أنه ربما قد يكون لا شيء". ويزداد الأمر فداحة حين يتم التأكيد على هذه الخاصية من قبل الزوجة التي من المفترض انها أكثر من يحتك به، من يعرفه، من يراه لولا أن حقيقة الأمر مخالفة لذلك. تقول له: " أنت مجرد ظل، أنت مجرد ظل، الظل أفضل منك"

وإذا كانت الرواية الجديدة مثلا قد اهتمت بالعالم الموضوعي ومنحت الأشياء وجودا مستقلا عن الإنسان مع الإبقاء على الرؤية الإنسانية والحفاظ على حركة الأشياء داخل الوعي الإنساني، فإن الأشياء في مجموعة النفيسي والجمادات والأزمنة، كل ذلك يعيش استقلاليته ويعبر عن إرادته الحرة في الفعل ورد الفعل.

حين يتحدث أبريل كما يتحدث سقراط أو كانط:

لعل من أفضال القصة القصيرة أنها أنزلت الأبطال من مصاف أنصاف الآلهة والفرسان المغاوير الذين يجابهون العفاريت والسحرة والأهوال لإنقاذ المدن أو الحبيبات، إلى مستوى الشخصيات العادية والفئات الاجتماعية الهشة ضمن مجتمعات صناعية واستهلاكية تتضارب فيها الأهواء والمصالح. مجتمعات ما لبثت أن أفضت باعتمادها قيما تبادلية إلى تشيئ الإنسان وانحطاطه وفقدانه ذاك البعد المركزي الذي يجعل منه سلطانا على الكائنات والأشياء، يتكلم نيابة عنها ويلزمها الصمت.

صارت الأشياء تتقاسم مع الإنسان مجالات التفكير والشعور والخطاب، تعبر عن مكنوناتها وتخطط لمآلاتها. هكذا قادت الفزاعات أكبر عملية انقلاب على الجنس البشري بعد أن رأت أنه صار يفقد إنسانيته ويزاحمها إشراطات هويتها كفزاعات ووظيفتها ومجال الاشتغال. العملية التي لم تكن رد فعل انفعالي فوري بقدر ما كانت نتيجة تشاور مطول وتفكير عميق. "لقد فكرت الفزاعات بشكل مطول في الرحيل. فكرت في ذلك حتى لا يبدو رحيلها كاستعجال أو كفعل متسرع وغبي".. "اجتمعت الفزاعات في الساحات الرسمية للمدن عبر كل بقاع العالم".. "كانت الفزاعات قد فكرت مليا في كل شيء" ونجد كعنوان فرعي لقصة أخرى: "الفزاعة الأولى تتحدث وهي تكاد تنفجر من الضحك"

هذه المهارات والقدرات العقلية والتعبيرية والانفعالية وغيرها لا تقتصر على الفزاعات بالطبع، بل تتعداها إلى العديد من الأشياء والأدوات التي تحيط بالإنسان والتي تشكل العالم الخارجي وتنقل بذلك "مادة الفن من الذات إلى الموضوع"4. يقول الكاتب في نص "بتر يوم الأحد": "من يذكر ذلك الاستطلاع الأول حيث وقفت الأيام الأخرى من الاثنين إلى السبت مرورا بالأربعاء طبعا واجمة كأن على رؤوسها الطير؟" " إنه الأحد الذي قد ينقلب إلى كائن أناني إذا بالغنا في مدحه أو قد يصاب بمكروه... لنتخيل مثلا أنه قد أصيب بمرض الزهايمر"

وعلى هذا المنوال ينطق العالم الخارجي بأشيائه وأزمنته وأدواته حيث البئر تفكر وتتذكر ولا تستطيع أن تغفو مخافة أن ينقض عليها الليل.. وتشمر عن ساعديها، والأرض تعبت من الشكاوى والانتظارات والكلام المنمق، والوقت "ينظر إلي وأنا أنظر إليه، يشمت بي وأشمت به"، والبحر والرصاصة والغابة وشهر أبريل.. كلها تتحدث وتنفعل وتفكر وتقرر تماما مثلما يمكن أن يتحدث وينفعل ويفكر ويقرر سقراط أو جحا أو كانط.

إنه كرنفال من الأصوات تنطق فيه الأشياء وتستنطق الأسماء والأيقونات ويخفت فيه صوت الإنسان الذي يمد يده بمحبة وثقة ويفتح صدره لقيم الخير والجمال، فالإنسان ذئب لأخيه الذئب الآخر، لولا أن قبح العالم هذا ينقل على كف لغة شاعرية مرفودة على ظهر الاستعارات والتشابيه المجازية ومنسابة مثل مياه جدول رقراق. لغة واثقة من نفسها لا تخشى النتوءات والمطبات التي من الممكن أن تشكلها الكلمات الدارجة أو الأجنبية التي ترد في سياق السرد فإذا هي الأنسب للمقام.

*********************************

1 الفزاعات تستقيل، مصطفى النفيسي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2023

2 الرواية والدهشة، عبد السلام المنصوري، المركز الثقافي للكتاب، 2023، ص:9

3 إحالة إلى رواية مصطفى النفيسي "طرقات بمزاج سيئ"، الآن ناشرون، 2023

4 نحو رواية جديدة، آلان روب غرييه، دار المعارف بمصر، ص:11

* باقي العبارات بين مزدوجتين مقتطفة من المجموعة 


مجلة فن السرد | قراءات ودراسات 

التصنيفات

شارك.ي. المقال

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك.ي. تعليقا

ليست هناك تعليقات

2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث