التقت عيوننا فجأة، ابتسمتُ وبقيت ملامح وجهها المتعب خالية من التعبير، وإن تفحّصت نظراتها وجهي في محاولة لتذكر هويّتي التي ربما غابت في زخم الوجوه التي قابلتها، بيد أن ما حصل صعب النسيان لذلك منحت نفسها بعض الوقت للاستغراق في التحديق، وظلت ابتسامتي معلقة، وألقيت السلام لأؤكد لها بطريقة ما أني هي تلك التي قابلتها منذ سنوات ولّت، والأمر ليس شبها فحسب.
لم تتحرّك شفتاها بردٍّ، واكفهرّت عيناها، فمضيت خارجة من المحل التجاري، اعترضني رجل بلغ من العمر والصبر عتيا، يدفع عربة ملأى بأكياس محشوة قوارير بلاستيكية، ويبدو أن ابتسامتي ما زالت معلّقة وحين نظر إليّ اتّسعت عفوا، فبادلني الابتسام وقال:"يعيش بنتي!".
ظللت أفكر في ردّتيْ الفعل المختلفتين، أوجعني حال الأولى لأن الشعور الجاثم على روحها، منذ عرفتها، لم يخفّ، أو بالأحرى لم تستطع طرده، لعلّ السكينة، التي تنتظر شغورا ما لتتخذه مرفأ بعد رحلة مضنية، تبدأ في ترصيف ما كنزته من مسرات من ضحكات من أحاسيس ارتياح بعد كدر، وغبطت الثاني، وحمدت الله من أجله لأنه وهبه مع الشقاء قلبا لم يرضخ للتبرم واليأس..
وناداني ذاك الطريق الذي سلكته مرارا.
لم أجد في ذاك الحيز الذي أثثه أحدهم بأرجوحتين و"سرسيبة"، وأحاطه بعجلات السيارات بعد دهنها بالطلاء، سوى بعض الحشائش التي كلما اقتلعت عادت للبروز بنفس اللهفة للشمس وذات الشوق للحياة وأعمدة حديدية، غير أني عولت على الذاكرة..
رأيتني تلك الطفلة التي اعتادت العودة سريعا إلى المنزل، متى غادرت المدرسة، ولا تجد في نفسها رغبة للخروج في اللعب، تحيد عن العادة، وتأتي إلى هذا المكان، ولا تأبه لانزعاجها من جلبة الصغار وصياحهم، وتجثو على ركبتيها لتحادث تلك الفتاة التي تحدق فيها دون أن تجيب، لكنها، تنتبه لما تقوله أو هكذا خيّل لها، وتصفّق أحيانا فرحا ويهتزّ جذعها العلوي، لا تنفكّ الطفلة تحكي لها وتعيد على مسامعها ما تعلمته، لم تفعل ذلك؟ لأنها حين مرّت يوما، لاحظت أن لا أحد يشركها في اللعب، وحتى السيدة التي علمت أنها كلفت بالاعتناء بها في نزهتها، تنغمس في حديث مع نسوة تحلّقن، قلّما تلتفت واثقة أن من ترعاها لن تستطيع الذهاب بعيدا.
ليس ذاك هو السبب الوحيد، وإنما لإحساس غامر شدّها إلى هذه "المختلفة" عمن صادفت وإن لم تستوعب كنه هذا الاختلاف الذي لمست فيه تميزا، لذلك لم تفهم دافع نظرات الشفقة ولا حتى تلك الكلمة التي تهمس بها إحداهن:"مسكينة!"، ما الداعي؟
لم يهمها حينها سوى إدخال السرور إلى قلبها وألا تتركها وحيدة، وغدت تجلب معها مجلات للأطفال٬ حين لاحظت فرحتها الغامرة٬ متى أبصرت الرسوم٬ ومن شدة سعادتها ذات لحظة أمسكت المجلة ومزقت صفحاتها، كادت الطفلة تغضب، غير أن ما شهدته من سعادة أخمد الثورة.
لا تمضي معها وقتا طويلا، نصف ساعة تقريبا لتنتبه تلك المرأة التي أتمّت طقسها الكلامي وقررت المغادرة، كثيرة هي الأيام التي لم تجد في مكانها المعتاد، غير أنها التقتها عصرا بعد غياب طال، وسارعت إليها، لكن، كفّا حطّت على كتفها، وسمعت صوتا مألوفا يأمرها بالابتعاد، أرادت الاستفسار عن السبب، إلا أن الغضب الذي خيّم على السحنة أخرسها وولّت هاربة.
منذ صبيحة اليوم التالي، تغيرت معاملة المعلمة واضطرت الطفلة لطأطأة رأسها كي لا تواجه عينين تنظران إليها شزرا.
كلفت تلاميذها كتابة قصّة، على أن يشترك اثنان في الإنجاز. تجنّت عليها التلميذة .. شريكتها في مهمة لم تتفقا على السبيل الأنجع لإنجازها، فافترقتا على تنفيذ كل واحدة منهما ما تعتبره الأنسب.. إذ لم تخجل وهي تصرّ على نقل حكاية من مجلة، ولم يتلجلج لسانها وهي تؤكد أن الزميلة رفضت تقاسم العمل معها، ولم تتح المعلمة فرصة للطفلة كي تلملم حروفا تبعثرت بعد أن تشظت الحقيقة من فرط البراعة في الكذب وانغرست حوافها المدببة في حلقها.
من يومها، غدا نعت "الأنانية" حاضرا للجلد بمناسبة وغيرها، والطفلة "تجلد" بصمت ولا تدافع، لأنها موقنة أن العاقبة وخيمة، ويزيد السكوت من رفع مستوى الأذى.
تبيت ليلها تدعو كي يجدّ حدث يمنعها من الذهاب إلى المدرسة التي تواجه فيها حكم الجلوس في المقعد الأخير منذ مدة، بعد عجزها عن الإجابة عن سؤال لم تسمعه أصلا، لأنه طرح أثناء نوبة عطاس وهي التي شكت حينها من نزلة برد، لتلتفت حولها مستغربة من سبب ضحك الزملاء ثم تلقت أمرا بجمع أدباشها للتواري.. والأشد إيلاما أنها ما تحلّت بجرأة تتيح لها الاستفهام عن الفتاة التي لم تظهر منذ تلك الأمسية!
..وحصل أن غابت المعلمة، لتعود بعد ذلك متهللة على غير العادة، وحين عمّ الهدوء، لم تنطلق في الدرس، وإنما قالت: "لقد ماتت ابنتي "هز ربي أمانته"، ارتاحت..أكيد أن هناك من أخبركم أنها تشكو تخلفا ذهنيا وهي رهينة كرسيها المتحرك، لا داعي بعد اليوم لهمساتكم المتواطئة، وأنتم تنظرون إلي وتوشوشون، السر الذي أخفيته وكشفه "لسان طويل"، لم يبق له أثر...فليحفظ لي ابني المعافى فادي!"
ساد الصمت ليقطعه أحدهم، يبدو أن الشجاعة طاوعته ليهتف:" غير أننا يا سيدتي لم نكن نعلم، ولم يخبرنا أحد شيئا! ربي يرحمها!".
ران السكون على القاعة للحظات ثم علا صوت نحيب مكتوم من آخر القاعة، لكنّ المعلمة استعادت سريعا رباطة جأشها وأمرت، بعد أن ضربت بكفّها الطاولة كي تقمع اللغط:
- "صمتا! هيا، افتحوا كراساتكم، سأمرّ لأتفقّد إنجازكم تمارين الحساب!".
مجلة فن السرد | مُحَاكَاة
إرسال تعليق