تتأرجح نصوص « قلعة المتاهات » للقاص المغربي سعيد رضواني، بين الواقع والخيال بحس تجريبي صادر عن رؤية تحمل هاجس الكتابة القصصية بالخصوص ، بل تقع تحت نير سلطة تأثيره التي تعجز عن التخلص منها، فيذعن للتفكير فيها أينما حل وارتحل : " يتأمل الغروب الذي جعله يجزم بينه وبين نفسه أن السرديات التي أطرت الناس ذات زمن ولى قد غابت خلف الأفق... " ص 41، مع ما عرفته القصة كلون أدبي ( السرديات ) من تأثير في النفوس ، وتنوير للعقول تراجع أمام أزمة القيم التي تعيش حالة أفول وتوار : " الشمس التي يرى في غروبها غروب كثير من القيم ... ولم تبق إلا بعض القيم التي ما زالت تستميت من أجل البقاء ... " ص41.
الكتابة القصصية لدى رضواني، تأخذ أشكالا وصورا تجريبية تنأى عما هو معروف : " حيث خلفت أنا مخطوطة قصة تتضمن أوصاف هذه المدن وأسماء تلك البوادي والغابات ، قصة تنتظرني بشوق فوق مكتبي الخشبي لأطعمها بتفاصيل الحكاية التي سيرويها لي صديقي ، وأغذي بها حبكة القصة . " ص28..
فهذا الارتباط بكتابة القصة ينجم عنه ركوب مغامرة قد تكلفه حياته كما في قصة « استدراج » التي " كلفت البطل قضاء عشرين سنة وراء القضبان : " فلولا إصراري على كتابة قصة « استدراج » نقلا عن الواقع ، ولولا إلحاحي على ذكر تفاصيل التفاصيل ... ما كنت تورطت ، دون قصد ، في أمر كان سبب اعتقاله وسبب قضائه عشرين سنة خلف القضبان . "
وقد تأسس مشهد غريب ، وتشكلت تفاصيله في مواجهة بين الكاتب / القاص والمعتقل الذي قضى عشرين سنة في السجن بسبب قصة « استدراج » التي ساعدت الشرطة على اعتقاله : " يتقدم نحوي ويقول والشرر يتطاير من عينيه الجاحظتين : «قرأت قصتك في السجن ، وعرفت أنك أرشدت الشرطة إلي بشكل فني يجردك من تهمة الوشاية ، قرأتها بتمعن وأدركت أنك تعمدت ذكر تفاصيل تسهل عملية تحديد هوية القاتل ...» " ص10.
المواجهة بين القاص وبطل قصته، الملمّ بتفاصيل الحكاية، التي كانت سببا في ولوجه السجن في مشهد منزاح عما يحيط بالكتابة القصصية من ملابسات ، وما تقوم عليه من أسس ودعامات . ثم ما تلبث الحروف تأخذ أشكالا غير مألوفة في تحويل لعناصر وكائنات من قبيل الأشجار والحيوانات والأبنية والأسرة ..إلى حروف تشكل نمط كتابة (قصة) : " ينظر الابن إلى حروف الضيعة التي شيدها والده فيرى تآكلها وانغمار بعضها في الرمال ، فيحرضه حرصه على تخليدها في الورق، إلى الإسراع في الكتابة . " ص21.
وإذ سرعان ما يلبي القلم نداء الرغبة في الكتابة ويجسدها على الورق : " يستجيب القلم إلى النداء فيستأنف عملية الكتابة ، عملية نقل الأبنية والأشجار والحيوانات والدواب والأسرة وتاريخها إلى حروف وكلمات تخطها الآن في سطور... " ص 21، وما يفتأ جموح هذه الرغبة يتقوى ويتضاعف ليغدو كائنا ورقيا : " بينما تنتاب المرأة رغبة جامحة في التلاشي من العالم والتجلي في الورق ، مثل الشخوص التي يضيئها بريق الكلمات والجمل ... " ص 32.
عجلة الكتابة في هويتها وكينونتها لا تتوقف عن الدوران والسريان لتشمل كل الوقائع والمشهديات كما في قصة قطار« لومباردي » الذي تأكدت هويته الورقية : " يغمض عينيه ويحاول تهدئة نفسه بكون قطار لومباردي مجرد قطار ورقي ضخ فيه الرواة الذين تناقلوا أخباره روحا من جديد ، وأن هذا القطار الأسطوري لم يعبر نفقا من الإسمنت بل نفقا من اللغة أحكم الرواة بناءه بالحروف والكلمات . " ص33، موقف حرك نزعة الكاتب إلى تدوين الحدث قبل أن تتلقفه أيادي الانفلات والضياع : " يشعر كأن هناك يدا خفية متآمرة أسهمت في انتقال سلس حوله من قارئ عن الحدث إلى مفكك للغزه . يخرج قلما ويشرع في كتابة مقالة تفسر للعالم حكاية انزلاق قطار من السكة إلى اللغة ... " ص 34، لتأكيد مدى قدرة اللغة بمكوناتها وعناصرها من حروف وكلمات وعبارات على استيعاب الأحداث مهما أفرطت في الغرابة والرحابة والتشعب والامتداد ومن ثمة القدرة على التعبير عنها وفق ما تتطلبه من إحاطة ودقة وشمولية حسب ما يؤكده الكاتب في قصة « لحظات ومشاهد » : " ولم يكن هدفي كتابة القصص ، بل كتابة كتابتها ، رصد مضمون القصة ورصد لحظات كتابتها ، بما فيها من حبكة وما في حبكتها من حبكة ، بما فيها من سرد وما في سردها من أساليب السرد ، وما تتضمنه من وصف وما في وصفها من أساليب الوصف . " ص74، في رصد وتتبع وتعقب لأدق التفاصيل والجزئيات من كاتب مسكون بهم الكتابة وشغف الحكي كما يسر بذلك : " ولم يكن حمل القلم والشروع في رسم هذا البطل أمرا غريبا علي وأنا الذي أقضي يومي بكامله أداعب الكلمات ." ص 81، سلاحه في ذلك القلم كأداة تسعفه في تدوين ما يخامر ذهنه من قصص ، وما يختمر في ذاكرته من حكايات في مقارنة بينه وبين كائن آخر تكرس الفوارق الحاصلة بينهما : " كان سلاحه في القتل مسدسه ، وكان سلاحي في الحياة القلم . وفي اللحظة التي أخرج فيها مسدسه أخرجت فيها أنا قلمي ... " ص83، حياة يختزلها الكاتب في قلمه كسلاح ، وكلماته كزاد وذخيرة .
وإذا كان طابع التجريب بارزا في
ثنايا الأضمومة فإنه ما يفتأ للاستعانة بعناصر تغني مادة الحكي لتغدو أكثر رحابة
وتشعبا بما تمده من جسور انفتاح واستشراف كعنصر الثنائية الذي يطالعنا في نصوص مثل
قطار «لومباردي » : " أركض بقدم وقلم ... أركض ... باتجاه محطتين ؛ محطة السفر في القطار ، ومحطة
السفر في الإبداع . " ص27، فتبرز ثنائية القدم والقلم في تجسيد لما يرمز له
القدم من حركة جسدية ، والقلم من نشاط فكري إبداعي ، والسفر عبر القطار مقابل
السفر عبر الإبداع من خلال محطتين مختلفتين . ويستمر مسار الثنائيات في العديد من
المظاهر الحبلى بحمولات دلالية ورمزية : " يقتلعني من بكائي سؤال غامض داهم
ذهني وأنا أقارن نفسي بهذه القبور ، ترى من منا الحي ومن الميت ؟...مقارنا صمتي
بسكينتها ، وكآبتي بغموضها ، وفراغي بخوائها ... " ص62، في تجسيد لعمق وقلق
سؤال وجودي يغوص في أبعاد الميتافيزيقا ، وما يكتنفها من غموض والتباس . والعنصر
الديني في تمظهرات نابعة من مدى تجذره في العقول والنفوس كما تجلى ذلك في قصة «قلعة الحروف والكلمات » : " ثم حل ذلك اليوم الذي جاء فيه الفقيه
مهرولا ليزف له خبر إتمام ابنه حفظ القرآن ، ونبأ إعلان الغابة الإسلام ... "
ص18، في تصوير لا يخلو من غرابة وإبهار :
" مشيرا بسبابته إلى الأشجار في مقدمتها، مهمهما :« انظر إلى الكلمات التي شكلها التواء جذوع
الأشجار ، أقرأ : لا إله إلا الله محمد رسول الله . » "
ص 18، أو في استيحاء من النص القرآني : " جسد هفهاف شفاف وقع على وجهي كما
وقع قميص يوسف على وجه يعقوب. .." ص 76، من سورة « يوسف » ،وما يستتبعه من معجزة استرداد يعقوب لبصره ،
في استخدام للنزعة الروحية وما أشاعته من نفحات عقدية بعيدة المرامي ، عميقة
الأبعاد ، ملهمة الدلالات . فضلا عن العنصر الثقافي في بعده الأدبي من ذكر لأعلام
بارزين كالشاعر الإيطالي دانتي صاحب الكوميديا الإلهية ، والكاتب والروائي
الأرجنتيني بورخيس : " مثلما كانت بياتريس تطل على دانتي ... مثلما كان
بورخيس ينادي بياتريسه ... " ص 69، عطفا على ما ورد من صيغ تداخل وتشابك بين
مكونات بعض قصص المجموعة : " يتداخل الذي أعيشه مع الذي أكتبه ، وحيث تنعدم
الحواجز التي تفصل المجسم عن المخطوط والملموس ... تداخل عجيب يجعل القطار المدمج
كأنه يسير على سكة أحد قضبانها من حديد
والآخر من سطور على الورق ، بينما القلم يسافر مختالا عبر الكلمات في متاهة
الحكاية... " ص 31، كما يتسم الأسلوب القصصي لدى الكاتب بلغة مجازية في الوصف
والتصوير في عبارات مثل : " وبعالم يتوشح برداء المساء ..." ص 27، في
وصف لحلول المساء الذي يخلع عليه رداء زمنيا مميزا ، وفي تشبيه لجسد الفتاة
بتشبيهات منفتحة على شتى القراءات والتأويلات : " فهم منه أن تضاريس جسدها
وجغرافيته كانتا بلا فتوحات معلنة ودون تاريخ . " ص39، مع نعت النداء
بالصفحات البيضاء المنمقة بالحبر ، والزمن بالعجلة : " تناديني من خلال صفحات
بيضاء مزركشة بالحبر يعلو مقدمتها عجلة الزمن. " ص 69.
إن قصص« قلعة المتاهات »تخوض بنصوصها وشخوصها غمار تجربة قصصية تؤسس لمفارقة متعددة العناصر
والموضوعات، يصعب معها التمييز بين الواقع والخيال . الورقي والحقيقي لما يوحدهما
من تمازج وتكامل يحول دون إلغاء حدودهما ، وطمس معالمهما.
عبد النبي بزاز
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــ الكتاب : قلعة المتاهات ( قصص)
ــ الكاتب : سعيد رضواني / مطبعة سليكي أخوين ـ طنجة 2022
مجلة فن السرد l قراءات ودراسات
إرسال تعليق