بمناسبة السنة الأمازيغية الجديدة:
مقطع من رواية تراتيل أمازيغية للكاتب مصطفى لغتيري
" تعرف أيها الملك الصغير أن مملكتنا تقع على مشارف الجبل، وتتمدد أراضيها حتى النهر ، الذي لا يعرف أحد من أين ينبع، ولا أين يصب، لكنني أنا أعرف أنه هدية لنا، خصتنا بها الآلهة دون غيرنا من الممالك ، التي تعيش قحطا مستمرا ، خاصة حينما تبخل السماء بمائها.. في تلك الجبال الشامخة تنتشر كهوف بلا حصر، تعيش فيها الأرواح المقدسة، أرواح أجدادك منذ غابر الأزمان،التي ما إن تغادر أجسادها حتى تأوي إلى تلك المغارات ، لتستقر هناك ساكنة مطمئنة .. يحدث في بعض الأحيان أن تغادر تلك الأرواح الكهوف، بعد أن تتقمص أجساد حيوانات، تختلف حسب طبيعة الروح التي تتقمصها ، ورغم قوتها التي لا يمكن أن تضاهى، فإنها ما إن تتحول إلى حيوان ما وتغادر الكهف ،حتى تفقد قوتها السحرية وتصبح معرضة للأخطار من كل الأنواع ، تسللت يوما روح تائهة إلى جسد خنزير بري، و مضت في طريقها تنتقل من مكان إلى آخر، تستمتع بالنور الذي حرمت منه نفسها زمنا طويلا.. التجأ الخنزير البري لبعض الوقت إلى ظلال شجرة " أرز" ضخمة، احتك بجذعها الكبير، ثم ما لبث أن غادره الى مكان آخر، حيث يوجد غدير ماء لا يكاد يعلن عن نفسه، في تلك الأثناء ظهر عدد من السكان المحليين فحاصروا الخنزير البري، واخذوا برشقونه بسهامهم المسننة الحادة.
أصابت الخنزير البري بعض السهام، فأفرج عن أنين متوال، ملأ الغابة بصوته الحزين المتفجع ،الذي لم يشفع له لدى الأهالي ، الذين كانوا تواقين لصيد ضحيتهم .. في تلك الأثناء كان أحد أجدادك القدامى مارا من هناك ممتطيا فرسه، وصله الأنين،فلم يستطع تجاهله ، لقد كان أنينا مختلفا ، وكأنه نداء من أجل أن يهب لإنقاذه .. خف جدك بفرسه نحو مصدر الصوت، فرأى السكان المحليين جادين في اقتناص الخنزير البري المحاصر.. نظر من بعيد إلى الحيوان فرأى داخله روحا تترنح، محاولة مغادرة الجسد الجريح... أحس وكأن رسالة ما ألقيت في روعه، تحثه على القيام بما يستطيعه من أجل إنقاذ الحيوان.. شهر جدك سلاحه ضد السكان، وركض بفرسه نحوهم، أخافهم الفرس النافر، والفارس الشجاع، الذي بدا لهم قويا، ولا حيلة لهم في مواجهته...فر السكان مذعورين.. وتقدم الجد نحو الحيوان، الذي استكان في مكانه...دنا منه بشكل كبير.. اطمأن له الحيوان، ولم يأت بأي حركة أو نأمة، فقط تمدد مجهدا ..أشعل جدك نارا، وعالج الخنزير البري بأعشاب برية يعرف فائدتها، واستمر في معالجته هناك أياما و ليالي دون ملل أو كلل..
حين عولج الحيوان، انتفض واقفا، ومضى في طريقه والجد يتبعه بفرسه، حتى بلغا مدخل الكهف .. تسلل الحيوان داخله ، فيما تمدد الجد في مكانه منتظرا ،لكن النوم سرعان ما غلبه ..راح في غفوة لم يعرف كيف سحبته إلى أحضانها الدافئة... ما إن فقد الصلة بالعالم من حوله، حتى وجد نفسه وجها لوجه مع روح تتشكل في هيئات مختلفة.. لم يرعبه ذلك، وإنما ألقى عليه ببعض السكينة ، التي كان في أمس الحاجة إليها . سأل الجد الروح التي تبدت له غير واضحة المعالم :
- من أنت؟
أجابت الروح :
- أنا الروح الساكنة هذا الكهف ، وأشكرك على إنقاذي.
لم يفهم الجد كلامها ، لكنها أشارت إلى الخنزير البري ، الذي ظهر في الحلم وديعا وهادئا، ثم أضافت :
- سأمنحك الملك وسأحميك وأحمي سلالتك .
ابتهج جدك بكلام الروح، و تمنى لو يسألها كيف يحدث ذلك وهو الفارس المتنقل من مكان إلى آخر منذ أن طرد من قبيلته، لكنها أشارت عليه بالصمت، وأردفت قائلة:
- سأفعل ذلك بطريقتي ، لكن عليك أن تقدم قربانا سنويا إلي ..اذبح كبشا أو ذكر ماعز ، وضعه في مدخل الكهف، ثم اتركه وارحل.
ترك جدك الذي اسمه" أكيلي" المكان، بعد أن اطمأنت نفسه إلى ما فاهت به الروح ، التي أنقذها بشجاعته.. امتطى صهوة فرسه، وتدحرج نحو السهل ..هناك تقدم بخطوات حثيثة نحو وجهة لا يعلمها، وقد كان الناس في السهول قد تداولوا فيما بينهم خبر الفارس الجبار، الذي انبثق فجأة من خلال أشجار الأرز، ممتطيا فرسه، الذي يخب بأناقة وقوة، فأرعب كل من وقعت عليه عيناه ..
في السهل كانت مملكة صغيرة، قد قضت أسرتها المالكة في حدث مؤسف، لقد تلقى الملك دعوة من مملكة " جراوة" البعيدة ، وهي مملكة أمازيغية كانت تحكمها ملكة كاهنة، ذاع صيتها في ذلك الزمان، ونسجت عنها القصص الكثيرة، حتى أن جميع الملوك كانوا يطلبون ودها، لكن حظ الملك السيئ قاده في طريق صعب، مليء بالأحراش ، ومنقطع عن باقي العالم ..هناك تعرض الملك لغارة من قبل قطاع الطرق، فمات الحرس وقتل الملك وأسرته.. حين وصل الخبر إلى المملكة تداول كبارها في الأمر، ولم يصلوا إلى حل يرضي الجميع، فقد رغب كل منهم في أن تكون المملكة من نصيب القبيلة، التي ينتمي إليها ..حين استعصى الأمر عليهم قرروا أن يؤجلوا الحسم في أمر الملك ، لكن أحد حكماء المملكة، حذرهم من التباطؤ في اختيار الملك، لأن التردد سيحفز باقي الممالك للتهافت على المملكة الصغيرة وضمها إليها، فاقترح أن يولوا عليهم رجلا غريبا عنهم ،حتى يدبروا الأمر بينهم ..وما إن سمعوا بأمر الفارس الغريب حتى لمعت الفكرة قوية في ذهن الحكيم فأخبر القوم بأنه رأى رؤيا ، لا يدري أحد إن كانت قد رآها حقا أم ابتدعها لإنقاذ المملكة ، فحكاها أمام الجميع :
رأيت في منامي ليلة أمس أرواح أسلافنا تحيط بالمملكة من كل جانب حاملة فارسا غريبا يرتدي جلود الماعز، ويضع على كتفيه فروة أسد، ويمتطي حصانا لم ير أحد أجمل ولا أقوى منه... سمع الناس الرؤيا وصدقوها ، وتطوع بعض السكان الذين التقوا الفارس في الغابة، وهم ينون الإجهاز على خنزير ، بأن أخبروا الجميع بأن الفارس موجود ، وهو ينتقل في الغابة ، يحمي وحيشها من البشر.
إرسال تعليق