"أين بإمكاني التنفّس أفضل إنْ كان الدّاء موجوداً في رئتي وليس في الهواء المحيط بي؟"
بيسوا
بدأ الأمر حين أصبت بنزلة رئوية. كنت أسعل وكان السعال يؤلمني بشدة، أضغط بكفي على صدري فأراه يتشقق تحت الكف كما لو أنه صدر من طين، ثم أرى الجرح داميا وأرى بصاق الدم ووجه أبي.
حينها التمعت الفكرة في ذهني: أن أعاقب السعال على أذاه. تلك الاندفاعة من الهواء التي تغادر الرئتين بكثير من الصخب، التي تهز الصدر وتبدل لون الوجه إلى زرقة كابية، ثم تضطر الفم إلى أن يلفظ ذاك السائل الأحمر الخاثر المبشر بالقيامة. قد يقول قائل إنها مجرد عرض لمرض دفين يهدد الكيان، وإنها بذلك جرس تنبيه يستحق الشكر )شكرا أيها السعال على صخبك(. فليقل القائل ما يريد لأنني رأيت ما فعله السعال بأبي، رأيت اهتزاز الصدر بالألم والوجه الأزرق الكابي وبصاق الدم على المنديل ويد الموت.
السعال قتل أبي، ومثل كل المجرمين القتلة ينبغي أن يعاقَب. ينبغي أن يُمسَك به من القذال ويودع سجنا لا يغادره
طيب أنت لا تصدق أيها الطبيب. تريد أن تلزم حياد وبرودة الأطباء، لكن أرى تحت قبعتك الرمادية سؤالا بحجم زرافة: ما الذي يقوله هذا المعتوه؟ أيُعتقل السعال؟
السعال يُعتقل
والسعال يُعاقًب و.. يعاقًب به. فأن يكون الإنسان سمينا منتفخ الأوداج وآثار النعمة بادية عليه، أي عيب في ذلك؟ فالدنيا أرزاق، لكن أن يحقر الآخر الذي هو أدنى منه وأضيق عيشا ويورده موارد التهلكة لكي يزداد هو راحة وتنعما، ذاك ما لا يستسيغه الذوق السليم أو يتحمله الصدر.
صدري كان يؤلمني إذا سعلت، يذكرني بأيام أبي الأخيرة حين كنت طفلا ما أزال وحين اقترن الموت لدي بالسعال. وإذن قلت لا بد أن أتصيده.. بنفس الطريقة التي تنفخ بها البالونات الهوائية، أسعل في كيس ما تيسر لي السعال وأشد عليه، ثم أرقبه هناك مثل خيوط سديمية تترنح في فضاء الكيس المغلق، يبحث عن منفذ ليتفجر في الخارج مثل قيامة صغيرة. أضحك في شماتة وربما أخاطبه قائلا: "لا داعي للفطفطة أيها السعال، أنت الآن طائر صغير في قفص". وكان علي أن أجتهد، أبحث عن السعال في مظانه، أبحث حيثما كان كي يتلقفه الكيس، كي يسجنه.
هكذا صرت قريبا من مرضى الصدر والمصابين بنزلات البرد والحشاشين المغالين في التدخين والمشتغلين في ظروف قاسية تأكل من أجسادهم ومن صحتهم كما يأكل الدود قلب التفاح. أتحين وقت االسعال، أتلقفه وأغلق عليه في الأكياس مثلما كان يختم النبي سليمان على عفاريته.
لم يكن الأمر سهلا بالطبع
ولا مألوفا مستساغا
أتعتقل السعال؟ ولم؟
لأن أبي مات وهو يسعل. مات وهو يشد بملفوظات الصدر المدشدش على راحة الكف. مات وهو يغمغم بعيدا عن أي يقين: "الغد سيكون أفضل وتعود الحياة إلى دورتها العادية". لكن الحياة لم تعد إلى دورتها العادية.. الحياة لم تعد إطلاقا.
كان أبي يشتغل عنده.. عند الرجل السمين الذي يعيش في بحبوحة، يشتغل دون هوادة، لا يطلب إجازة ولا علاوة "علي أن أحلل لقمتي" كان يقول. حتى أصيب بداء الصدر ولم يطلب إجازة، وحتى أنهكه المرض ولم يطلب ولا خطر للرجل السمين أن "يتبرع عليه بها "لأن على الأجير أن يحلل لقمته". ثم لم يعد الأجير يقوى على العمل. الأجير الذي ظل طيلة حياته يعمل دون طلب إجازة لم يعد يقوى على التنفس حتى.. حينها قال له الرجل السمين: " يا الله، داركم.. لا حاجة بي إلى رجل مريض على وشك أن يموت"
أكره السعال وأكد في سبيل اعتقاله.
سعال أطفال وسعال شيوخ، سعال رجال ونساء، سعال مرضى وأشباح على مشارف النهاية. أتلقى السعلات كما يتلقى المؤمن بركات الكاهن وأقفل عليها. أحيانا تستيقظ النزعة السادية لدي، تفتح أعينها فيّ وتبدأ في الصهيل فأسلي نفسي بما أسميته جلسات التطهير التي هي في الواقع حفلات تعذيب أمارسها على عينات من السعال منتقاة بشكل عشوائي من ركام الأكياس. أنفس على الكيس بميزان وبما يترك مجالا لسعلة بأن تنسل عبر الفتحة الضيقة لولا أني أضغط سريعا على الفتحة وأخنق بذلك السعلة التي طمعت في أن تتحرر، فيُسمع لها صوت أشبه بالضرطة أو بصرير باب قديم متهالك، ويكون ذلك بعض السعلة فقط بينما الباقي مكث سجين الكيس أبتر مقطوعا عن بعض أنفاسه ومحبطا مصابا بالاكتئاب أحيانا أخرى.
حين لا أكون بمزاج رائق ولا رغبة لدي في التسلية، أكتفي بأن آخذ كيسا ألقيه في النار، يتحلل سريعا تحت الحرارة فأسمع حشرجة الموت ونداءات استغاثة وأصوات احتراق مقرونة بروائح زنخة. أذكر أبي في تلك اللحظات فأزداد حنقا على السعال وأسرح خلف أفكار متجددة للتعذيب أكثر وحشية وأكثر إيلاما.
نعم حقيقي أن السعال يتعذب أيها الطبيب ويصرخ من الألم، لا تصدقني؟ أكمل؟
كان ذلك في أوائل الخريف، أذكر إذ كان علي أن آخذ اللقاح ضد الأنفلوانزا الموسمية، لكن في ذلك الوقت بالذات أصبت بالنزلة الرئوية التي أصابتني بالذعر )إذ لا شيء يصيبني بالذعر مثل نزلة رئوية(. تدثرت بألف غطاء وتناولت ألف دواء ما بين وصفات الأطباء وتعليمات خبراء الأعشاب والطب التقليدي. كنت أرتعد. أعرف أن ارتعادي كان من الخوف أكثر منه من المرض، ف"الأكيد أن مناعتي نزلت إلى الحضيض وأني سأموت" ظللت أردد في تلعثم واضح ومن يحيط بي من الأهل يسخر مني ويقول: " أنت تبالغ، ما هي إلا نزلة وتفوت" فأرد عليهم: "وهل فاتت حين أصابت أبي أم أنها لم تفلته إلا ورجلاه في القبر؟" ينظرون إلى بعضهم البعض في حيرة بالغة ولا يحيرون جوابا.
قال له "لا حاجة بي إلى مريض على وشك أن يموت" هل تدرك أية قسوة يحملها هذا الكلام؟
عاد أبي إلى المنزل، رمى بجسده على السرير ولم يكلم أحدا. كان يسعل فحسب، يدخل في نوبات سعال متتالية حتى نظن بأنه سيلفظ رئتيه أو يلفظ مع أية سعلة أنفاسه الأخيرة. أحيانا قليلة ينبس ببعض الجمل المقتطعة بلا شك من سيل أفكار تعذب الذهن، كأن يقول: "الله يأخذ الحق" أو "هذا ما يستحقه أي أجير أمين يعمل دون هوادة" حتى إذا رأى علامات الهلع بادية على السحنات يقول بنبرة من يريد أن يُطمْئن دون أن يقنع أحدا "غدا تعود الحياة إلى دورتها العادية"..
أية حياة وأية دورة.
وإذن أيها السمين أنت أيضا تستحق غضبي.
كنت أسجل على الأكياس شرائح الساعلين فأقسمها بذلك إلى درجات: أكياس أطفال يمرضون لأول مرة فتدمع عيونهم وتضيق صدورهم فيسعلون وهم يرنون إلى أمهاتهم بنظرات عاجزة عن الفهم قبل أن تهتز صدورهم بالسعلة التالية.. أكياس شيوخ لا تنقص أقدامهم سوى ذريعة أخيرة كي تطأ القبر.. أكياس نساء مصابات بالعجب ومهووسات بالإتكيت فتراهن بأيديهن على أفواههن يسعلن كما لو أنهم ينهنهن بضحك قسري.. أكياس أشخاص نخر السل صدورهم قبل أن ينبههم قريب ما إلى وجود ذلك الاختراع البشري المسمى مستشفى، وأكياس شيوخ أنهكهم تدخين الكيف والسجائر الرخيصة فتراهم يسعلون ويلعنون ويستمرون في السعال حد اختناق وشيك.
كنت أواظب على ترصيف الأكياس بذهن لا يتوقف عن النبش في سبل أخرى لتعذيب السعال ولو أن أفكارا غريبة تشوش على هذا المنحى بين الحين والآخر، أفكارا أردها إلى الضعف الذي يعتريني ويكسر المضاء والعزيمة اللذين ظللت أباشر بهما اشتغالي والذي يمكن تفهمه في النهاية، فالكائن البشري ليس مصنوعا من فولاذ.. هكذا فكرت في لحظة انكسار أن أطلق سراح مجموعة سعلات في الهواء الطلق. فكما يعفو رؤساء الدول عن جماعات السجناء بمناسبة الأعياد، قلت هناك وقت للتعذيب وآخر للتجاوز. وفي الواقع ما كان بي فضول زائد لمعرفة كيف ستتصرف السعلات المتحررات بعد طول احتجاز.
أخذت أكياس نساء سعالهن كالضحك القسري وأكياس رجال حشاشين تشبه سعلاتهم صرير سيارات صدئة في مقبرة للسيارات، وقصدت الخلاء الواسع حيث لا ألقى أحدا من الآدميين. على سفح جبل حدقت في الأفق البعيد والشمس ليمونة تستعد لتوزيع أهلتها على الكون. وكما يحدث لعازف البيانو الذي يوزع حركات أصابعه على المفاتيح، جعلت أثقب بيد ذربة مجموع الأكياس فتتطاير السعلات في الهواء مثل كائنات سفلية تفرج عن مكنوناتها الخبيئة بغرض تلويث المجال. كانت هناك فرقعات وصرير أبواب ودقات طبول وكركرات شادخة، حتى إنني خلت في لحظة خاطفة أن الذي يسعل هو الجبل. يشد على صدره ويسعل فتنقذف من على ظهره الطيور والأرانب والسحالي والثعالب والثعابين والسلاحف، فلا يفهم هو ولا تلك الكائنات المفزوعة مالذي يحدث أو يميز أي منهم إن كان ذكرا أو أنثى.
قلت لنفسي: هذا درس جيد لكن علي أن أبذل جهودا أكثر لتجميع المزيد من السعال وأبلغ السرعة القصوى
السرعة القصوى؟ كيف؟
كان علي أن أفرغ الأكياس في براميل ضخمة وأرصف البراميل في غرفة كبيرة تحتية سميتها السرداب، ثم آتي بالسمين إلى الغرفة.
كان قد استبدل السيجار بالغليون والغليون بالنفحة، وكان قد بدأ يهرم ويضعف، ولأنه يعرفني كإبن للمرحوم لم يكن من الصعب استدراجه إلى السرداب. بعد ذلك حدثت الأمور بالسرعة والفعالية اللازمتين
كانت الغرفة باردة رطبة يثقب عين الظلام فيها ضوء شحيح وبخار سديمي يصاعد من مسام الجدران ويحيل إلى مشهد شريط سينمائي يمهد لجريمة قتل مروعة. أو لعل ما ظننته بخارا كان ضبابا فقط ينشر حصيرته على الأرض وينسل عبر الكوة الضيقة أعلى الجدار
كانت الغرفة مملوءة عن آخرها ببراميل السعال ووسطها ممر ضيق يكفي بالكاد أقدام عابرين محتملين باتجاه الجحيم، وكانت السلسلة الحديدية المربوطة إلى الجدار ملقاة على أرض الممر كإعلان صريح عن نذر شر قريب
جال السمين في فضاء الغرفة بنظرات متسائلة، ثم استل من ردنه علبة النفحة، نثر منها على ظهر الكف واستنشق النثار بخيشوم مدرب على الشفط. وقبل أن يتفوه بكلمة غافلته بلكمة أسقطته أرضا وبادرت بربطه إلى السلسلة الحديدية
قلت له:
- هل تذكر أبي؟
بجسده الذي أنحله المرض وعينيه الغائرتين.. أبي الذي لم يرفس النعمة أبدا ولم يطمح إلى نيل شيء لا يستحقه
- هل تذكر كيف مات؟
جعل يتساءل عما يحدث وما أود أن أصنع به ولماذا السؤال عن موت أب طواه النسيان؟ ولمح إلى المال وإمكانية تعويضي عن ألم الفقد واليتم وأزمنة القهر، ثم لم أعد أسمع ما يقول.
كانت السعلات قد بدأت تتفجر في سماء الغرفة مثل شهب نارية ساعة احتفال تاريخي. جعلت أتنقل بين البراميل بخفة سنجاب مروض على افتضاض الأشجار أرفع عنها الأغطية فتصدح بالفرقعات والكركرات والحشرجات ودق الطبول، فيما جعل السمين يسد أذنيه ويجول بنظرات زائغة عبر الأرجاء. وحين فتحت الباب أتسلل إلى الخارج وأعيد إغلاقها على الفور، خيل إلي أني سمعته يئن من ألم غامض ألمّ به ويصرخ بما تبقى له من صوت: " غدا تعود الحياة إلى دورتها العادية" ثم اختفى الصوت وعلا صوت الفرقعات.
كانت الفكرة أيها الطبيب أن يصاب السمين بالهلع من كثرة السعال ويختنق من هواء الغرفة الفاسد الذي هو في الأصل زفير المرضى والحشاشين المسكونين بشتى الجراثيم والفيروسات.. أن يموت مثلما مات أبي.
كيف؟ ماذا تقول؟
البيانات الرسمية تثبت أن أبي مات قبل أن أولد؟ وتؤكد: كانت أمي حاملا بي حين مات في حادثة سير؟
مجلة فن السرد| مُحَاكَاة
إرسال تعليق
اترك تعليقك هنا
الرجاء تغيير موقع التعليقات في الإعدادات إلى مضمن