عن دار النايا للدراسات والنشروالتوزيع بدمشق، صدر للروائي مصطفى لغتيري نص روائي تحت عنوان: ابن السماء(2012).
ويمتد هذا النص عبر عشرة فصول تحكي حكاية تحول أسرة من الفاقة والفقر والتهميش إلى الغنى والمال والجاه، وتقرن هذه الحكاية بخلفية تاريخية : زمن الاستعمار بالمغرب، من باب إضفاء سمة الواقعية على مجمل النص الذي يكتسح ثلاثة أرباعه السحري والشعوذي والقدري، أو المقدس بشكل عام ، لكن المرتبط بكيد النساء، أي المقدس الذي شيِّد انطلاقا من المدنس، والذي يعكسه التحول من دار للعمل الجنسي وبيع اللحم الأنثوي إلى ضريح سيدي الساكت صاحب الكرامات والمناقب المزعومة، والتي على أساسها تبني أسرة لؤلؤة وماما سلمى ثروتها وجاهها وترتبط بالكولون الفرنسي وتبعث بابنها للدراسة في فرنسا، لتعود مجددا إلى ممارسة القِوادة والدعارة ضمن مشروع استثماري مربح ينضاف إلى المضاربة العقارية والتجارية بمباركة وتزكية من الكولون الفرنسي وعملائه وقواده وبصاصيه وزبانيته.
والعمل الشريف الوحيد الذي يعود لهذه الأسرة هو الحرص على بناء مدرسة بقرية سيدي الساكت، وقد نضيف إليه إرسال الإبن للتعلم في فرنسا ليعود بعد ذلك مفعما بأفكار الحرية ومصمما على ضرورة تغيير كل شيء بالإنخراط في العمل الوطني ضد المعمرين الفرنسيين، وبالتحرر من إرث الأسرة وتاريخها المشينين.
والواقع أن رواية مصطفى لغتيري "ابن السماء" تمكن قراءتها من مداخل متعددة وعلى مستويات متنوعة:
1. في الإمكان قراءتها بصفتها حكاية منقبية انطلاقا من الرجل ابن السماء الذي نزل إلى الأرض وتحول إلى سيدي الساكت، الولي الصالح صاحب الكرامات والمناقب المزعومة، والذي تحول مقامه إلى مزار تلعب فيه المرأة اللعوب لؤلؤة دور الوسيط ؛ وهو ذات المقام الذي صار ضريحا بعد وفاة صاحبه وظل يمارس نفس الأدوار والوظائف التي كانت للزوايا والأضرحة والمزارات إبان وقبل وبعد الزمن الإستعماري؛ غير أن شؤون المقدس المناقبي المرتبطة بسيدي الساكت تديرها قحبتان ضليعتان في أمور الدعارة ومتعلقات القِوادة.وربما يومئ هذا إلى ضرورة إعادة قراءة تاريخ الأولياء والصلحاء والأضرحة والمزارات في ضوء ثنائية: المقدس/المدنس.
2.الخطاب النظري المتخلل للرواية أو خطاب الحراسة، وهو مجموع تدخلات الكاتب في النص ، والتي يبرز من خلالها تصوره للكتابة الروائية ومكوناتها من شخوص وفضاء وسرد؛ وهذا الخطاب لافت للإنتباه منذ الصفحة الأولى(5) ويتخلل مجموع سطور النص ويحضر أحيانا في مواقع محددة بهدف الحفاظ على التماسك الإجمالي للحكاية.
3. يشكل الفضاء بدلالته الشاملة عنصرا جوهريا في القص. وقد أصر المؤلف وبإقرار شخصي على إبقاء شخوصه وأعمالهم ولغتهم داخل قرية سيدي الساكت، والمحكي لا يغادر هذا الفضاء، نحو الدار البيضاء أو فرنسا، إلا ليعود إليه. وترتبط أهمية هذا الفضاء بالتقاط مجمل التحولات التي شهدتها القرية المغربية في النصف الأول من القرن العشرين بفعل عاملين : أولهما لاتاريخي وقوامه حلول المقدس من السماء وتطوير كفاءته وفعاليته من منفذ الدعارة؛ وبقدرما في هذا من سمات الحكاية المنقبية، فيه كذلك شيء من الخيال العلمي والأدب الغرائبي أو الفانطاستيك؛ أما العامل الثاني، فتاريخي ويرتبط بحلول الإستعمارـ تحت ذريعة الحماية ـ بمدارسه وتعليمه وقيمه وتقنياته وتجهيزاته التي يشار لها في النص مجازا بالمذياع. وبمقتضى هذين العاملين عرفت القرية، كصورة مجهرية للمجتمع المغربي، تطورات سريعة ومتلاحقة تغشى الأبصار.
4. تكون الإنتلجنسيا المغربية أو بعض شرائحها على الأقل في إطار العلاقة الكولونيالية، وهذا ما تلمح إليه الرواية عبر ذهاب أبن لؤلؤة وغيره من أبناء الأعيان للدراسة في فرنسا. وإذا كان دور هذه النخبة معروفا في تاريخ الغرب الحديث والمعاصر ، فإنه يشكل هنا أحد المداخل الممكنة لقراءة رواية مصطفى لغتيري.
5. يتشكل مجتمع الرواية من العديد من الشخصيات التي تجمعها علاقة القرابة، وتنهض بوظائف شديدة التنوع والتغاير. ويشكل هذا المجتمع المجهري صورة مصغرة للمجتمع المغربي في لحظة مفصلية من تاريخه. وتبقى هذه الصورة جديرة بالفحص والنظر، خاصة وأنها تطرح مسألة حاسمة: وظيفة الدعارة ودورها في تطور المجتمع المغربي الحديث المعاصر.
مجلة فن السرد| قراءات ودراسات
إرسال تعليق
اترك تعليقك هنا
الرجاء تغيير موقع التعليقات في الإعدادات إلى مضمن