المبدعة إيمان زهدي أبو نعمة |
ستائر الضباب
مع تراتيل شفق ذات مساء، انطلقت الأخبار ترتل تباشير النصر و التمكين، بعد أن عادت الجيوش المحررة إلى معاقلها ، و انقشعت غمامة الشر عن بلادنا، فانحنت الشمس لتخطف قُبلة من جبال فلسطين لتعانقها بكل حب و فرح ، حتى ارتمى قرصها بين أحضان تلك المرتفعات كالعاشقين ، أمضيتُ تلك الليلة أتسامر مع عائلتي و نحن ننتظر الصباح بشغف، حتى هرب النوم من عيوننا، و ما إن أشرقت الشمس في اليوم التالي لتلقي علينا تحية الصباح، حتى خرجنا من بيوتنا نركب حافلات الحرية ، نسمع صوت السائق و قد علا بأسماء المدن التي لم تدسها أقدامنا يوما، بل قرأنا عنها في كتب الجغرافيا و التاريخ، أصر والدي على السائق حينها أن يبدأ رحلتنا من مدينة القدس، فأذعن السائق لأمره مطيعاً، و عندما أدرك مراده داس على فرامل الحافلة ليوقفها عند مشارف المدينة الطاهرة ، فنزلتُ من السيارة و سارت قدماي بين أزقة القدس التي كانت حبلى بالوجع ، أشتم عبق الماضي و هو يرسل شذاه إلى ذاكرتي ، فهنا خطا الفاتحون خطواتهم مكبرين مهللين قبل قرون ، و هنا عانت القدس من ظلم المعتدين فسالت دماء الأحرار بعد أن تجرعوا كأس الذل و الخذلان، و هنا سجدت البيوت تناجي الله سراً بعد أن خارت قواها و قد ألهبتها سياط الاحتلال ، هذه الطرق مليئة بالدموع و الدماء، و هذه الجدران قد ضجت من صوت الأنين و الصراخ، إلى أن ودع الحزن المدينة المقدسة ، و علقت على مآذنها نياشين النصر و العزة .
سارعتُ خطاي في شوارعها فرأيت الناس ينفضون عنهم غبار الموت، ليعيدوا إليها بسمة الأطفال و إشراقة الحياة، سرتُ و أنا أتلمس جدرانها العتيقة، و تداعب أنفي رائحة البهارات و الفلافل المقلية، و يروقني شكل الكعك المقدسي و هو يخبز بأفران الطين حتى تنتفخ أوداجه فيخرج منها منمشاً بالسمسم الأحمر، بينما تعلو أصوات الباعة مانحة الحياة للمدينة المحتفلة بانتصارها ، حتى بدأتُ ألمح القبة الذهبية و هي تشرق من بعيد ، و كأنها احتوت كل نعيم الدنيا فاستنزفت ببهائها كل معاني الجمال ، عندها عجلتُ خطواتي كي أرتمي في أحضانها، و أرتوي من مائها، و أستنبعُ الهناء من رؤياها ، فمن نظرة واحدة لها تسكن الروح و يهفو الفؤاد و كأنها ممر الروح للسماء ، رأيت جموع الناس قد جاؤوا محتفلين بالنصر، تلثم جباههم تراب المسجد الأقصى و تعانق صدورهم أعمدته الشامخة رغم كل جحافل الظلم التي مرت به عبر التاريخ، فسجدتُ مع المحررين سجدة الشكر لله ، و أنشدنا معاً أناشيد النصر و الفرح ، ثم ركبنا الحافلات نتنقل بين ربوع مدننا المحررة فقطفنا العنب من ربا الخليل ثم نزلنا إلى أغوار أريحا لنستمتع بجمال أشجار النخيل الشامخة، ثم سرنا على شاطئ البحر نلمح الصيادين يستبشرون بالخير الكثير ، و مررنا كحلنا عيوننا ببيارات برتقال حيفا و يافا ، و بعدها صعدنا فوق أسوار عكا الشامخة لنبصر كل فلسطين، و قد علت مآذنها و بيوتها الرايات و صدحت مساجدها بأصوات التكبير و التهليل ، و أقيمت أعراس الحرية للأسرى المحررين .
و بينما أنا في غمرة السعادة و إذ بي أسمع صوت أمي و أشعر بيدها تهزني، فتقول لي :
"استيقظي يا هدى لأطمئن عليك" فتحتُ عينيّ قليلا ثم أغمضتهما مرة أخرى؛ فقد بدا لي كل شيء ضبابيا، حاولت أن أحرك جسدي الملقى على سرير المشفى فلم أستطع، وددتُ لو أصرخ من الوجع لأستجدي بصوتي الخافت بقايا حياة، و لكن صوتي كان يرتطم بجدار الصمت كلما علا و كأنني أصرخ في بئر عميق..
أبصرت قدمي المضمدة التي أعجز عن تحريكها أو رؤية نصفها الآخر التائه في الحرب، و كأنه استقل جناح غيمة و طار كنسمة باردة، صرت أُنقل عيني بين الحضور، أبحث بعيونهم الدامعة عن إجابة لأسئلتي العابثة في عقلي الحائر ، كل شيء كان يوحي بالصمت حتى رج الأرض صوت انفجار كبير أدركت معه أننا ما زلنا تحت وطأة الحرب، و ما زال الموت يسير بالطرقات يسعل في كل مكان ، فيقتل الأحلام و ضحكات الصغار ، و ما هذا الحلم الجميل إلا هلوسات المخدر الذي أخذته جراء عدة عمليات جراحية، قام بها الأطباء ليعالجوا جسدي الصغير الذي قد أبلاه الوجع ، بعد أن خرّ البيت علينا صريعاً بقذيفة عابرة .
مجلة فن السرد| مشاتل
إرسال تعليق
اترك تعليقك هنا
الرجاء تغيير موقع التعليقات في الإعدادات إلى مضمن